بقلم : يسار محمد الدرزي
التفكير هو عبارة عن نشاط عقلي يسعى لحل مشكلة أو تفسير موقف غامض أو
لمعرفة العلاقة بين أفعال الانسان ونتائجها إذن لابد من وجود قضية تثير في الانسان
الحاجة أو الدهشة أو الشك ليبدأ الانسان بالبحث عن حلول أو تفسيرات لها بواسطة
عمليات التفكير المختلفة وهي خاصة به ، أما الحيوان فسلوكه آلي محدود لسد حاجة
الجوع والعطش عنده .
ويتدرج الانسان في موضوعاته الفكرية تبعا لحاجاته فيبدأ بالتفكير بسبل
إشباع حاجاته اليومية الاساسية كالجوع والعطش والكسوة والمسكن والجنس والعلاج وهي مرحلة التفكير الخدمي ، لذا تعمل الحكومات
الفاسدة على مر التاريخ على حصر تفكير عامة الشعب في هذه المرحلة لاستنزاف طاقاتهم
الذهنية والجسدية في سد متطلبات عيشهم الاساسية . ثم ينتقل الانسان بفكره الى
المرحلة الثانية وهي مرحلة المباديء والمعتقدات حيث يبدا بالتفكير في موقعه في
المجتمع بماله من حقوق وما عليه من واجبات وفي نوع نظام الحكم الذي يخضع له ويعيش
في كنفه.. ثم ينتقل الى المرحلة الثالثة
وهي مرحلة التفكير الفلسفي بالبحث عن
العلل العقلية للمباديء والمعتقدات
بالتفكير بالمعاني الاساسية للحياة كمفاهيم الخير والشر والجمال والحرية وعلاقة
العقل بالجسد وغيرها من الموضوعات الفكرية
، وبهذه المرحلة يسمو الانسان بفكره الى حالة التأمل في معاني الوجود
المادية والروحية ، وهي المرحلة التي يعيشها المفكرون من فلاسفة وسياسيين لامعين
ورجال قانون متبحرين ومثقفين موسوعيين .
إذن الانسان يتدرج في مستوى تفكيره من سطح الحياة الى عمقها المادي والنفسي
.. وللتفكير طبيعة معنوية داخلية في عقلنا فاي موضوع نحاول الحديث عنه والتفكير
فيه يجب أن نكون له صورة متكاملة في داخل عقولنا ثم نحاول التعبير عنه لأخراجه الى
العالم الخارجي بأستخدام اللغة بشكل جيد ودقيق ، ولغتنا العربية هي اللغة الوحيدة
التي حافظت على مفرداتها الاصيلة ولم تتغير منذ أكثر من1400 سنة كغيرها من اللغات
العالمية ، وذلك لأن الله سبحانه وتعالى قد حفظها لنا بكتابه العزيز القران الكريم
، فأصبح فهم الدين الاسلامي مرتبط بمدى إتقان المسلم للغته العربية ، لذا أعتقد
بأن افضل لغة تصلح لتدوين الفكر الانساني هي اللغة العربية لانها خالدة خلود
الاسلام على وجه الارض .
والتفكيرالانساني يعتمد على ذكاء الانسان الوراثي وبيئته واعراف مجتمعه وتقاليده التي نشأ فيها ومستوى
تطورها الفكري .. وهناك اساليب مختلفة
للتفكير الانساني جميعها تجمع على أن لكل نتيجة سبب ولكل ظاهرة طبيعية أو
إجتماعية علة ولكن تختلف في تحديد نوع السبب أو العلة .
فالتفكير الخرافي يفسر الظواهر أو النتائج بعلل واسباب خيالية وهمية خرافية
، وهو تفكير سطحي يعتمد على الحواس ويسود في المجتمعات البدائية .. وهناك التفكير
النقلي أو التقليدي أو الاقتباسي وهو يعتمد على أفكار وتحليلات وآراء الغير من
القدماء كعلماء ومفكرين وعلى ماألفه الانسان في حياته الاجتماعية ، بأعتبارها
حقائق مطلقة الصحة فكل ما يخالفها هو خاطيء ، وهذا التفكير هو إرث الانسان العقلي
الذي يبني عليه تصوراته وآراءه في قضايا الحياة المتعددة المادية والاجتماعية .
لذا فنحن نحكم على الاشياء والحوادث والظواهر وفق ماالفنا حصوله ، فاي خارج عن
المألوف هو غير معقول وغير ممكن التصديق وبهذا وضعنا لعقولنا حدودا لاتتعداها
لاننا نعتمد على أفكار وتعليلات القدماء التي نشأنا عليها فنستشهد بها لتدعيم
آراءنا في الاقناع والاقتناع ولذلك كثيرا ما نحارب ما هو جديد ومخالف لاعرافنا دون
التحقق من فوائده ومضاره في الواقع .. لذا فأن هذا التفكير قد يقود المجتمع الى الجمود
في حالة كون بعض التحليلات والاراء القديمة
هي خاطئة ولكننا مستمرون بالاعتماد عليها دون مراجعة لمدى صحتها ، أوقد تبرز قضايا فكرية جديدة لم تكن موجودة سابقا فلا يمكن تحليلها
بالاعتماد على موروثنا الفكري . ومن ذلك ما تعلل به المشركون في مكة عندما سئلوا
عن سبب عبادتهم للاصنام فقالوا : هذا ماوجدنا عليه آباءنا ، دون أن يفكروا في انها
لاتنفع ولا تضر .. لذا فأي تجديد فكري يحدث في اي مجتمع يجب إما أن ينبع أو يتوافق
مع اسلوب التفكير السائد في المجتمع أو
قدلا يتوافق فيلقى حينها معارضة من قبل المتمسكين بالاصول الفكرية القديمة للمجتمع
، وهنا تبرز معانات المجددين من المفكرين
سواء أكانوا محقين أم مخطئين فيما أتوا به من أفكار جديدة .
وهناك التفكير باستخدام طريقة القياس العقلي بأعتماد قواعد كلية كأصول
تتفرع منها الفروع وتقاس عليها ، كالقول مثلا : الانسان كائن عاقل . كأصل أو قاعدة
فكرية ، فعندما يقول شخص : زيد إنسان ،
إذن القياس العقلي يكون : ( زيد كائن عاقل ). حيث يشترك الاصل والفرع بنفس
العلة .. هذا التفكير قاد الفلاسفة الى محاولات وضع الاصول الفكرية للانسان بتحديد
معاني الخير والشر والعدالة والجمال
والفضيلة وغيرها وتعددت آراء الفلاسفة
في هذه الموضوعات بتعدد نظرتهم الى الحياة .. ولايستطيع أحد أن ينكر بأن الفلسفة نجحت في تحطيم الفكر الخرافي الذي
كان يسود أوربا في قرونها الوسطى المظلمة ، والذي لازالت بعض آثاره موجودة في
المجتمعات المتخلفة ، ولكن الاقتصار على طريقة القياس العقلي فحسب ، أدى الى إهمال
التجربة الميدانية والاكتفاء بالقياس العقلي للفروع على الاصول مما أدى الى
إنعزالية الكثير من المفكرين عن المجتمع لاهمالهم التجربة الاجتماعية
الميدانية والى تخلف في المجال العلمي
لاهمال التجربة العلمية .. ولتوضيح ماذكرنا نذكر قصة لكاتب تحدث فيها عن جده وكان
شخصا متعلما يسترشد الناس قديما بآرائه ،
وفي أحد الايام قبل الحرب العالمية الاولى جاء اليه بعض الناس يسألونه عن صحة خبر
سمعوه وهو أن الغرب قد إخترعوا طائرة مصنوعة من الخشب والحديد تطير في السماء مثل
الطيور فهل هذا ممكن ؟ فأخذ الرجل مطرقة مصنوعة من الخشب والحديد ورماها في الهواء
فسقطت على الارض ، فقال لهم : بطريقة القياس العقلي : بما أن الخشب والحديد لايطير كما رايتم فكذلك الطائرة
المصنوعة منهما لايمكن ان تطير ، فصدقوه الناس وكذبوا الخبر الذي سمعوه... وهذا هو الفرق بين التفكير الشرقي والغربي
، فالغرب إعتمد على التفكير العلمي وكان سبب
تطوره ، بالبحث عن الاسباب والعلل
المادية للنتائج والظواهر ، ثم إجراء التجارب على هذه العلل والاسباب لأكتشاف
حقيقتها وكيفية تأثيرها بالاحداث ولمعرفة إمكانية التحكم بها والسيطرة عليها ،
وباستخدام الملاحظة والتجربة تمكن من
إبتكار وإختراع السيارات والطائرات وغيرها وتمكن من علاج الكثير من الامراض.
إن النجاح العلمي لاتحدثه الصدفة بل الدراسة العلمية والفرضيات التي يتم
إختبارها بالتجارب ، وملاحظة نتائجها وتحليلها وصولا الى الحقيقة ، وسبق لي أن عملت في مجال البحوث العلمية الالكترونية
، فوجدت أن نجاح التجربة العلمية غير كاف
، إذا لم يتم تحليل الاسباب العلمية الموضوعية التي قادت الى نجاحها ، كي يمكننا
تطوير هذه التجربة والاضافة إليها وإستخدامها في مجالات أخرى ..
ومن الجدير بالذكر أن علماء العرب سبقوا الغرب في إبتكار أسلوب التفكير
العلمي المستند على الملاحظة والتجربة ،
فقد إستخدمه جابر بن حيان والحسن بن الهيثم وغيرهم من العلماء ، لكن فترات
السبات الفكرية التي مر بها عالمنا الاسلامي ، كان لها الاثر الكبير في إهمال
الكثير من إبداعات علمائه الافذاذ ومنها
اسلوب التفكير العلمي.
بهذا قطع الانسان شوطا واسعا في تطوره العقلي من مرحلة الخرافة والطفولة
الى حالة النضوج ، وبهذا نظر الانسان الى أن لكل سبب نتيجة مرتبطة به بعلاقة وهناك
ظروف تحيط بالسبب والنتيجة تشكل شروطا لتحققها ، واضاف الفكر الديني الى هذا
المبدأ القدرة الالهية لتعليل حدوث المعجزات التي ظهرت على أيدي الانبياء تاييدا
لرسالاتهم السماوية .. فالله سبحانه وتعالى يخلق
لكل سبب نتيجة وفي حالة المعجزة والتي هي خرق لاعراف البشر ، يعطل الله
سبحانه وتعالى الاسباب ، فمثلا عندما القي سيدنا ابراهيم عليه السلام في النار لم
يحترق وكانت بردا وسلاما عليه ، وهنا تعطلت قدرة النار على الاحراق بعونه تعالى .
لذا فأن معجزات الانبياء قادت العقل الانساني الى الايمان بالغيب الحقيقي
لان الاسباب المادية تعطلت فلم يبق غير أخبار الانبياء عن القدرة الالهية التي
لاتعلوها قدرة .
إن ما يجهله الانسان أكبر بكثير مما يعلمه عن الحياة بمعانيها المادية
والروحية ، وهذا ما يحفز العلماء والمفكرين على مواصلة الدراسة والاستكشاف ، ومما
يزيد من تواضعهم للعلم ومن تقبلهم للنقد ومن تسامحهم مع الاراء المخالفة لآرائهم ،
وماذاك إلا خدمة للعلم الذي لاينتصر في النهاية إلا للحقيقة التي نسعى جميعا
للوصول إليها .