الأحد، 8 سبتمبر 2013

الاصالة والتواصل الحضاري



يسار محمد الدرزي

  إن الهوية المستقلة لأي أمة تقوم على اللغة والتاريخ والاخلاق والتشريعات والاداب والفنون والتقاليد التي تعتنقها ، فهي لاتقوم على العلوم والمخترعات ، فليس هناك فيزياء إنكليزية وكيمياء فرنسية ورياضيات عربية ، ولكن هناك لغة عربية وأخلاق عربية وأدب عربي وثقافة عربية وهنا تكمن خصائص الامة المميزة لها عن غيرها .
    كثر إستخدام كلمة الاصالة مع اختلاف في تحديد مفهومها مما أدى الى تباين  مدلولاتها ، لذا سنعرفها بما نعتقده معبرا عن جوهرها فنقـول :
   الاصالة هي الارث اللغوي والفكري والاخلاقي والتاريخي والقانوني لأمتنا العربية الاسلامية  ، مما يتوجب عليــــــــنا   الحفاظ عليه عن طريق ديمومة  حوار الحاضر مع الماضي، فالاصالة ليست إرثا لماض سحيق نضعه في متحف الافكار والنظم والعقائد ،  إنها المحفز لأي أمة على الانبعاث الثقافي الابداعي بضوابط وأسس معلومة ، تجعل من حاضرنا قادرا على ان يعبر عن ذاته لا أن يكون صورة مستنسخة  عن فكر الاخرين من الامم الاخرى . .. فالاصالة إذن بهذا المفهوم هي مثل فكري تأريخي يحتذى لغة واخلاقا وتاريخا وشريعة وفلسفة .
  قد يظن البعض أن الحديث عن (الاصالة والتواصل الحضاري) نوع من الترف الفكري وليس قضية ساخنة أساسية وهذا ظن في غير محله  ، حيث أن للتواصل الحضاري مع إرثنا الفكري والاخلاقي والتشريعي والتاريخي اهمية كبيرة لأسباب أهمها :
ا1- الحفاظ على وحدة الامة الثقافية كي تستطيع مواجهة أي غزو فكري ، يحاول إحتواءها بالقضاء على الخصائص المميزة لها .
ا2- بأنجازات الامة الحضارية في عصورها الذهبية  يتم تحفيز الجيل الجديد لبلوغ المعالي عن طريق العلم والمعرفة  ، وبأمجاد الامة وبطولات رجالها يتم إستنهاض همم ابنائها للدفاع عنها والتصدي للغزاة.
ا3- أي تجديد فكري مستند على أصالة الامة أو غير متعارض معها  ، يجعله مقبولا من قبل مجتمعنا بحيث يتكيف ويتفاعل معه إيجابيا  .
  أما الامة التي تتنكر لموروثها الفكري والديني فهي كمن يدخل في نفق مظلم دون أي بصيص أمل للخروج منه .. فأي فكر سياسي أو إجتماعي يتعارض في جوهره مع أصالة الامة الاخلاقية والدينية يكون بداية لصراع بين المتمسكين بالموروث وبين الثائرين عليه بأسم ( التحرر والتحديث ) .. قد يحسم هذا الصراع بالقهر والاستبداد لصالح الثائرين عليه ، ولكنه يحول المجتمع الى حالة غير مستقرة إجتماعيا وسياسيا وقانونيا  ، لاتلبث  أن ترجع الامة في وقت من الاوقات الى اصالة هويتها ... لذا فان هدم القديم بكامله بحسناته وسيئاته بضعيفه وقويه من دون امعان النظر في النافع من الضار منه ، يستلزم وقتا طويلا ويكلف الامة الكثير من الاخفاقات والدماء والاموال ...فهذا الاتحاد السوفيتي ذو الفكر الاممي الالحادي تجاهل الخصائص القومية والدينية  لشعوبه معتمدا بفرض فكره على الحديد والنار ، وبعد الكثير من الدماء والضحايا  التي وقعت إنهار هذا الاتحاد بأسرع مما كان يتصوره أعداؤه وأصدقاؤه ، وعادت الكثير من الشعوب الى ممارسة دياناتها وعاداتها وطقوسها ورمت  بالاممية الالحادية في مزبلة التأريخ .
    وبعد ان تمكن الاستعمار الفرنسي من إحتلال الجزائر عام1830م حاول إجهاض المقاومة الوطنية الجزائرية عن طريق اتباع  سياسة فرق تسد  ، فحاول إثارة العداء والنزاع بين العرب والبربر ولكنه لم يفلح في ذلك .. ولعل من أهم اسباب وحدة الشعب الجزائري هو أن مرجعيته الدينية كانت متماسكة وهي على المذهب المالكي ، ثم حاول الفرنسيون أن يغيروا هوية الشعب الجزائري العربية الاسلامية  ، فأتبعوا سياسة الفرنسة والتبشير( التنصير ) ولكن هذه المحاولات الاحتوائية  إنتهت الى فشل ذريع ، حيث كان رد فعل الشعب الجزائري مزدوجا فقاوم الفرنسة بالعروبة والتبشير بالاسلام  ، وكان للشيخ عبد الحميد بن باديس رحمه الله اثر كبير في بث الوعي بأصالة الهوية العربية الاسلامية  ، حيث فند كل الاكاذيب والمغالطات التاريخية التي ألصقت بالعرب ، وهو القائل في (تفسير ابن باديس)ص713 :( نحن حراس الاسلام والعربية والقومية في هذا الوطن ) .. أنشأ ابن باديس مجلتي المنقذ والشهاب سنة1924م ودعى الى التمسك بالاسلام والعروبة للتحرر من الغزاة ، وفي عام1931 أنشأ جمعية العلماء المسلمين التي ضمت120 عالما وكان شعار الجمعية :( الاسلام ديننا ، العروبة لغتنا ، الجزائر وطننا ) واصدرت الجمعية عدة مجلات كان أبرزها (مجلة البصائر ) ، وكانت شعارات الاستقلال تجمع بين العروبة والاسلام ومن هذه الشعارات التي كان يتغنى بها وينشدها الجزائريون الوطنيون :
شعب الجزائر مسلـم             والى العروبة ينتسب.
من قال حاد عن اصله            أو قال : مات فقد كذب .
أو رام إدمـاجا لــه            رام المحال من الطلب .
    وفي عام1954م تم اصدار البيان الاول للثورة الجزائرية ضد الاحتلال الفرنسي ، وإستمر نضال الشعب الى أن تحقق استقلال الجزائر في عام1962م ، وهكذا تكلل كفاح شعب إستمر مدة (132) سنة بالتحرر من الاستعمار ،  قدم خلالها  مليون ونصف شهيد .
   لقد أدرك الجزائريون بأن معركة التحرير هي معركة إثبات هويتهم العربية الاسلامية .. هي معركة التميز الثقافي والحضاري والقيمي عن ثقافة المحتل الفرنسي الغازي لبلادهم ، وهنا التقت العروبة والاسلام في معركة التحرير الوطني من نير الاستعمار .
  إن تاريخ الشعوب يثبت الحقيقة الفكرية التالية : ( إن شن أي حرب ضد الموروث القومي والديني لأي أمة حية  ، إن كانت هذه الحرب من أبنائها فهي ثورة على الذات ، وإن كانت من أعدائها فهي صرخة في واد .)
  أما تفعيل الموروث القومي والديني بالحفاظ عليه وإحياء ما إندثر منه بفعل عهود التخلف التي مرت بها الامة ، وتناوله بالنقد لتنقيته من المفاهيم الخاطئة والافكار الهدامة للتمييز بين ماهو أصيل وماهو دخيل عليه ،  وإقتباس مايتلائم معه من الشعوب الاخرى وفق حاجات الامة الحاضرة  ، مع صياغة نظريات  سياسية وإجتماعية وإقتصادية تجمع بين الاصالة والحداثة لتجاوز حالة الجمود والتقدم باوضاعنا نحو الامـام ، فهذا هو الطريق الاسلم لنهضة الامة فكرياً.
 أما الموقف الفكري العام للمثقفين من قضية الاصالة والتواصل الحضاري فيمكن تصنيفهم الى ثلاث إتجاهات :
أولا :  جامدون متعصبون :
    هم أناس إكتفوا بتقليد الماضي والعمل على الابقاء عليه  كما هو من غير اضافة او تغيير ، ومنهم من يعتز بالماضي عاطفيا فيقتصر على سرد الامجاد وتعظيم الاجداد ورفع الشعارات من غير أي إنجاز عملي يترجمها الى وقائع يعتبر بها في الحاضر ، مقتصرين على مخالفة الغربيين واظهار مساوئهم الاخلاقية وجرائمهم الوحشية ضد شعوب اسيا وافريقيا .. هؤلاء الناس يعيشون في حالة جمود وسبات فكري .
ثانيا: جاحدون مقلدون :
   هؤلاء هم دعاة التبعية والتغريب الذين إعتقدوا أن اصالتنا اللغوية والاخلاقية والتشريعية هي سبب تخلفنا  ، لذا جعلوا من الغرب مثلهم الاعلى ، يريدوننا أن نكون صورة مستنسخة عنه بلا إستقلال فكري واخلاقي وتشريعي يحفظ للامة كيانها وهويتها .. فدعوا الى تقليد الغرب جملة وتفصيلا ،  ولعل حالة التخلف والجمود الذي اصيب به الشرق في مقابل النهضة العلمية للغرب التي مكنته من إستعمار الكثير من بلادنا العربية ،  ولد عندهم إحساسا بفقدان الثقة بالنفس وبتراث الامة الذي يجهل ابعاده وخفاياه الكثير منهم  .. هذا الوضع السيء مع الجهل بأصالة الامة هو الذي دفعهم للاعجاب بالغرب إعجاب المغلوب بتقليد الغالب كما يقول ابن خلدون في مقدمته.. ولكن الاقتباس المحظ في كل النواحي هو ليس دليلا على التجديد والتقدم بقدر ما هو نوع من فتور الهمة وجمود في القدرة على الابداع ، وذلك لأن دعاة التغريب لم يبدعوا نظريات سياسية واجتماعية واقتصادية ولغوية تلبي حاجاتنا الحاضرة ، بل إستوردوا هذه النظريات بنقلها حرفيا من الغرب من هنا وهناك ، وهذا برأينا هو نوع من التسول الثقافي .
ثالثا: أصلاء مجددون :
 هم مفكرون عرفوا ما حواه ماضينا العربي الاسلامي من ذخائر ونفائس معرفية أيقظت أوربا في قرونها الوسطى المظلمة من سباتها ، ثم مرت الأمة بعهود إنحطاط  فتركت عملية تنمية المواهب العلمية والحث على الابتكار بأنشغال الحكام بالتنافس على الملك لاعلى خدمة الامة الاسلامية ، فأستفاد الغرب من علومنا وطورها بينما جمدنا وتخلفنا ، وهناك من يحاول إبقاظ الامة من سباتها على اساس أصالة موروثها الفكري ، بالاستفادة من علوم الغرب الحديثة كي لانفني ذاتنا في حضارة الغرب فنكون اثراً  بعد عين .
     لاحرج في إقتباس ما ينفعنا من علوم الصناعة والفيزياء والكيمياء من الغرب ولكن المشكلة تكمن في إستيراد الثقافة الغربية بتقاليدها واخلاقياتها وتشريعاتها فيبقون هم على هويتهم بينما نفقد نحن هويتنا وأصالتنا .
    إننا نستطيع من خلال إرثنا الفكري والاخلاقي والتشريعي  أن نصوغ نظريات سياسية وإجتماعية وقانونية  أكثر ملائمة لأوضاعنا الحالية ولنفسية شعوبنا من نظريات الغرب التي إنبثقت عن حاجات مجتمعاته ، والجدير بالذكر أن كبار مفكري الغرب إعترفوا بهذه الحقيقة .. يقول المفكر الفرنسي الكبير الدكتور روجيه غارودي في كتابه ( ماركسية القرن العشرين ) ص59 :( إن الجزائري ذو الثقافة الاسلامية يستطيع أن يصل الى الاشتراكية العلمية  بدءا من منطلقات أخرى غـــير سبل ( هيجل) أو ( ريكاردو) أو ( سان سيمو ) فلقد كانت له هو الاخر إشتراكيته الطوباوية ممثلة في حركة القرامطة ، وكان له ميراثه العقلاني والجدلي ممثلا في إبن رشد ، وكان لديه مبشر بالمادية التاريخية في شخصية إبن خلدون ، وهو على هذا التراث يستطيع أن يقيم إشتراكيته العلمية .)
  لايعني هذا أن لانستفيد من الغرب ونظرياته القانونية والسياسية والاجتماعية ، بل أن يكون إقتباسنا إنتقائيا وليس إستنساخا كليا لها .. إذا أردنا اللحاق بالغرب  علينا أن نتعلم كيف نفكر ونبتكر لا  أن ننعزل عن تراثنا الفكري والحضاري معتمدين على الاقتباس المحظ والوصفات الجاهزة كالبضائع التي نستوردها من الغرب ولانعرف كيف صنعت .
    ليس التواصل الحضاري مع الماضي إلا جمع بين الاصالة والمعاصرة وهذه مهمة ليست بالهينة ، إنها تتطلب من القائمين بها أن يكونوا مدركين لأرثنا الفكري والاخلاقي والتشريعي والفلسفي.. ماهو الثابت فيه وما هو المتغير ، ماهو الاصيل وماهو الدخيل ، ما متفق عليه ومامختلف فيه ، ما هو قطعي وما هو ظني ..مع تفهم إمكاناتنا الحاضرة والتحديات التي تقف أمامها... وكما يقال لاينفع كلام بحق لاتطبيق له ، لذا فنحن بحاجة الى مفكرين عمليين يستطيعون أن يترجموا أفكارهم الى مشاريع عملية إبداعية ، تستطيع ان تعيد الى الامة ثقتها بنفسها وبأنها لازالت قادرة على العطاء والابتكار ، هذه الانجازات العملية تستطيع ان تؤثر في النفوس والعقول أكثر مما تستطيع ان تفعله مئات الكتب والاف الشعارات والقصائد الحماسية التي لايعقبها غير التمني  لبلوغ ما بلغه الاجداد أو الأسى على حاضر مؤلم  لايتبعه عمل جاد  يغيره نحو مستقبل مشرق .
  إن للتطبيق الناجح لأي تجديد فكري يستند على إرثنا الحضاري ،  هو البرهان الحي  على أصالة أمة تريد النهوض بنفسها لتحقق ذاتها ، فتترك بصمتها في الحاضر بعد أن ترك الاجداد بصماتهم اللامعة في الماضي .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق