بقلم : يسار محمد قاسم
إن تاريخ الفكر الانساني هو تاريخ البحث عن
السعادة في مجتمعاته المتباينة الاعراق والديانات ، حيث أن لكل منها مفهومها الخاص
عن السعادة ، إلا أن إجتهادات المفكرين
والفلاسفة كانت منصبة على السبل الموصلة الى السعادة أكثر من بحث ماهيتها
، وذلك لان الصيغ والوسائل متباينة ومتجددة حسب الاماكن والازمنة والاعراف الطاغية
على المجتمع ، بينما حقيقة السعادة غاية
مسلم بأهميتها لدى الجميع .
ونحن في هذا المقال سنتحدث عن السعادة من خلال
أفكار فلاسفة الامم ومفكريها لنخرج من تحليلنا لارائهم بنتيجة نعتقد بصحتها .
منذ القدم أشارت الملاحم البطولية الى فكرة
الاحتفاظ بالسعادة عن طريق الخلود ، كما في ملحمة كلكامش حاكم الوركاء البطل
المتطلع للشهرة والصيت والذي أثار موت صديقه أنكيدو في نفسه فكرة نهاية الانسان
ولغرض إدامة تمتعه بالحكم والسعادة ذهب يبحث عن الخلود ولكنه فشل ، وادرك ان
الخلود الحقيقي هو بالاعمال الصالحة الخيرة التي تبقيه في ذاكرة الاجيال .
أما
في الفلسفة فقد إختلف الفلاسفة في تحديد ماهية السعادة الى آراء منها :
أولا
: السعادة أنواع : قال ارسطا طاليس :
السعادة ثلاثة : إما في النفس ، فهي الحكمة والعفة والشجاعة ، وإما في البدن فهي
الصحة والجمال والقوة ، وإما خارج النفس والبدن ، فهي المال والجاه والنسب .
ثانيا
: السعادة ليست غاية : من الفلاسفة من رأى أن الصراع هو قانون النمو وأن الالم هو علامة الحياة ، وهو عامل مهم
لتحفيز الانسان الى العمل والبناء ، لذا فالسعادة ليست غاية لحياة البشر بل غاية
الحياة هي تحقيق الاعمال وإنجازها . قال عما نويل كانت :( إن تاريخ العالم ليس
مسرحا للسعادة ، وفترات السعادة صفحات بيضاء فيه ، لانها فترات إنسجام خالية من
الصراع ).
وبرأينا إن هذه الفكرة غير مقبولة لانها تجعل
الانسان مجرد آلة غير واعية تائهة ، يقوم
بأعماله بلا هدف ، بل بدافع خوف الحاجة والالم أو هوس الحيازة على المادة فيدخل حينها في صراعات لاتنتهي إلا بأنتهاء
إمكاناته أو موته.
ثالثا
:السعادة وهم : من الفلاسفة من كان متشائما بنظرته الى الحياة مثل شوبنهاور حيث
بين أن الحياة شر ، وما السعادة إلا وهم لايمكن الوصول اليه لاسباب منها :
ل1.
أن الرغبات الانسانية لايمكن إشباعها جميعها لانه في حالة إشباع رغبة تتولد رغبة
أخرى تريد إشباعها وهكذا الى ما لانهاية ..
ل2.
الحياة شر لان الالم هو دافعها الاساس وحقيقتها وليست اللذة سوى مجرد إمتناع سلبي
للالم ..
ل3.
إذا إستطعنا فرضا القضاء علىكل الشر سوف لانصل الى السعادة لاننا سنصاب بالسأم
وهو لايحتمل كالألم ..
ل4.
إن زيادة معرفة وبعد نظر الانسان تزيد من شعوره بالالم ، لان آلامنا كامنة في تأمل الماضي أو التفكير بما سيقع في المستقبل .
هذا الرأي هناك من يعتنقه من الناس المصابين
باليأس والقنوط من رحمة الله سبحانه وتعالى لهذا ذكرناه ، ولكن هذه النظرية
المتشائمة تصيب من يعتنقها بالشلل النفسي والجسمي والعلمي لأنها تنفي وجود السعادة
اصلا ، وهي بهذا الفعل تقضي على أي حافز إنساني للقيام بالاعمال الناجـحة المثمرة
.
أما الديانات على إختلافها فقد حصرت غاية الانسان في هذه الحياة بالسعي لنيل السعادة
الابدية في العالم الاخر بعد الموت ، وهذه الجائزة لاينالها إلا الملتزم بالتعاليم
الدينية . وهناك أديان وعدت المؤمنين بها بسعادة الدارين الدنيا والاخرة مثل
الاسلام.
وفي الديانة الهندوسية هناك نظرية للسعادة (
النرفانا ) مغزاها ( أن الانسان يبلغ السعادة بمقدار كبت الرغبات والشهوات
وإيقافها إيقافا تاما )
هذه
النظرية ترى السعادة بترك مغريات الحياة ومباهجها ، وتجعل الانسان مستعدا للخنوع
والكسل ، لذا فهي نظرية لاتصلح لاعمار الارض .
من
الناحية النفسية والاجتماعية فأن الانسان
بعد أن ينعم بسد حاجاته الاوليةالاساسية من مأكل وملبس ومشرب وأمان ، يسعى الى الاستزادة منها فيسعى الى الثراء
والشهرة واشباع رغباته الجنسية والى السلطة
، هذه الاهداف يرى كل إنسان فيها سعادته بنسب مختلفة تتراوح بين القناعة
بحدود معينة منها وبين تعدي هذه الحدود المعقولة فتتحول الى نقمة على صاحبها كما يلي :
أولا
: الثراء : إن حب جمع المال بلا حدود ، يحول الانسان الى آلة غير واعية لصحتها
ولحال من هم حولها ، إذا لم تهذب قناعة الانسان تهالكه على المادة ، وصدق أحد
الحكماء عندما قال :
(
من قنع كان غنيا وإن كان فقيرا ، ومن لم يقنع كان فقيرا وإن كان غنيا ) .. فالغنى
الحقيقي كما يقال هو غنى النفس .
ثانيا
: الشهرة : قد تتشبع النفس الانسانية بحب الظهور ، فتغدو بلاهدف جديد بل في فراغ
نفسي وروحي قاتل لايوجد ما يسده خاصة إذا كانت الشهرة مناقضة لمستلزمات الحياة
الطبيعية للانسان ، فأنها قد تحطمه نفسيا ، كما حصل ذلك لممثلة الاغراء الشهيرة (
مارلين مونرو) التي إنتحرت تاركة رسالة أوصت بعدم فتحها إلا بعد موتها وكانت تتضمن نصيحة لفتاة شابة في مقتبل حياتها
الفنية جاء فيها :
(
إحذري المجد ، إحذري كل من يخدعك بالاضواء ، إني اتعس إمرأة على هذه الارض ، لم
أستطع أن أكون أما . إني إمرأة أفضل البيت ، الحياة العائلية الشريفة على كل شيء ، إن سعادة المرأة الحقيقية في
الحياة العائلية الشريفة الطاهرة ، بل إن هذه الحياة العائلية لهي رمز سعادة
المرأة ، بل الانسانية ..... لقد ظلمني كل الناس ، إن العمل في السينما يجعل من
المرأة سلعة رخيصة تافهة مهما نالت من المجد والشهرة الزائفة ).
ثالثا
: الاباحية الجنسية : الاستهتار بالقيم
الاخلاقية أدت بالشباب الى مهاوي إجتماعية
كبيرة والى أمراض جنسية مخزية كالسيلان والزهري والسفلس وغيرها وآخرها مرض الايدز القاتل الذي وقف العلماء أمامه حائرين .. فأي
سعادة بدايتها لذة ونهايتها فضيحة وموت مخزي بصورة مقززة !.
رابعا
: السلطة المطلقة :
*
هناك حكام إعتقدوا أن سعادتهم تكمن في التخلص من معارضيهم دون التفريق بين بريء
ومذنب . ومنهم الحاكم الروماني الشهير سلا
Silla حيث أخضع بتجبره وقسوته المفرطة الرومان وهم صاغرون ، ولقب نفسه (
السعيد ) وأصبح مثال على التسلط المطلق على الارواح والاموال ، ثم أصيب بكآبة
لكثرة الجرائم والاثام التي إقترفها فأعتزل الحكم ومن ثم أصيب بداء خبيث فمات
سنة78 ق.م في أتعس حال ، وقبل موته أمر أن يكتب على قبره :(هنا سلا الذي فاق كل
أحد في البر باصدقائه والنقمة من أعدائه ).
لذا يخطيء من يظن بأن الانتقام من المعارضين
الناقدين لسياسته للوصول الى التحكم المطلق يمكن أن يمنحه السعادة ، فليس إضطهاد
الغير إلا محاولة لسد نقص نفسي سرعان مايتجدد فيحتاج صاحبه الى مزيد من العنف تجاه
الاخرين .
*
وهناك حكام أرادوا الحصول على السعادة من خلال تحويل الحياة الى مسرح كبير يكونون
هم أهم أبطاله ، ومنهم نيرون Neron الذي ساد الامبراطورية
الرومانية خلال حكمه الهدوء والازدهار ودفعه ولعه الشديد بالموسيقى والشعر الى
إرتياد المحلات العامة للشعب ليغني ويعزف لهم ، فحاول مجلس الشيوخ عزله بمؤامرة
إلا أنها فشلت ، فتحول نيرون الى وحش كاسر منتهجا سياسة قمعية ، فأعدم الكثير من
النبلاء .. ويقال أنه أحرق روما سنة64م ليعيد بناءها وفق احلامه وخيالاته ، وإنتهى
به المطاف الى الانتحار .
من خلال الاراء الفلسفية والنفسية والاجتماعية
السابقة حول السعادة وسبل الوصول اليها ،
يبرز أمامنا سؤال مهم ألا وهو : ماهي حقيقة السعادة ؟
للأجابة
على هذا السؤال يجب أن نفرق بين ثلاث معاني ذكرها العالم مكدولج ، وهي:
أولا
: اللذة : وهي كل ما يشبع الحاجات الجسمية للانسان ، كالاكل والشرب واللبس ، هذه
اللذة تكون وقتية.
ثانيا
: السرور : وهو متصل بالعواطف ، كالسرور الناتج من مقابلة صديق حميم بعد غياب ، أو
شفاء مريض محبوب لنا وغيرها ، حيث يكون
السرور أطول أمدا من اللذة.
ثالثا
: السعادة : وهي أطول أمدا وأعمق تاثيرا من اللذة والسرور ، وهي تنبع من قيام
الانسان بأداء واجب يؤمن بأن تحقيقه يؤدي الى تحقيق ذاته .
هذا الرأي يتطلب من الانسان أن يكون ذكيا كي
يستطيع أن يختار فكرة سامية يعتبر تحقيقها واجبا ، ثم أن يكون صادقا كي يؤمن بها ،
وأن يكون ذو إرادة كي يحول قناعته الفكرية
والنفسية بالواجب الى عمل نافع .
ولكن ماهو المنهج الصحيح الذي على الانسان أن
يؤمن بصحته كواجب يستطيع تحقيق سعادته من خلاله ؟
على إختلاف الاراء العلمية والفلسفية والدينية للبشر إلا أن سمات
المنهج الذي يسعى الانسان للوصول إليه برأينا هو :
ل1.
منهج يبين لنا أصل الانسان وسبب خلقه وعلاقته بالكون ، وهذا كان مبحث علماء
الطبيعة .
ل2.
منهج يحدد مقاييس وقواعد الخير والشر والعدل والجمال والسعادة ، وهذا ما يبحث عنه
الفلاسفة .
ل3.
منهج لاتتعارض أصوله مع العلم والاكتشافات الحديثة ، وهذا ما يسعى له العلماء
والمخترعون .
ل4.
منهج يشمل كل جوانب الحياة الروحية والمادية فيقود المؤمنين به الى الشعور
بالسعادة والاطمئنان النفسي والروحي ، وهو مانسعى جميعنا لتحقيقه .
إن منهجا متكاملا يشمل كل هذه السمات لايمكن
أن يحققه البشر بأمكاناتهم الذاتية من غير أخطاء أو قصور ، وبما أنه منهج نسبي
الصحة غير معصوم من الخطأ ، هذا يعني أن الايمان به شيء مستحيل ..
إذا لابد من أن يكون هذا المنهج إلهيا كي
نضمن كونه مطلق الصحة وكي يدفع الانسان الى الايمان به ، لذا بعث الله سبحانه
وتعالى بالاسلام دين يفسر سر وجود الانسان واصله ومحددا الخير والشر والاحكام
والعبادات ، ولاتزال الاكتشافات العلمية تؤيد صدق ماجاء به قرآننا الكريم، وكأن
الكون يشهد على صحته ويدعو بني البشر للايمان به .
ومن هنا نتبين بأن المسلم الحقيقي خير مثال
على الانسان السعيد ، حيث يتصدق على الفقراء عن طيب نفس فيرى سعادته في قضاء
حوائجهم . ويرضى بقضاء الله وقدره فيصبر على البلاء الذي يحل به بسعادة مؤمنا بان
الله سيثيبه على صبره ، ويتسامح مع المسيء إليه بسعادة طمعا في أن يتجاوز الله عن
سيئاته ، بل يجد سعادته في كل عمل أخلاقي سام يقوم به ، وبما ان اعمال الخير والاصلاح لاتنتهي ولا تقف
عند حد لذا يكون المسلم العالم العابد
سعيدا طوال حياته ما دام هناك فضائل يسعى لتحقيقها ورذائل يبتعد عنها فيحاربها
للقضاء عليها ، فهو إنسان سعيد لانه يكون في السراء شاكرا محسنا وفي الضراء صابرا محتسبا . وبهذا تتكامل سمات
السعادة الروحية والمادية في الشخصية الاسلامية .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق