بقلم : يسار محمد الدرزي
في إحدى رحلاتي إلى البلاد الاجنبية ، رأيت في وسط إحدى الحدائق
تمثالاً شد إنتباهي إليه جمال ملامحه
الموحية بالتواضع ، المملوءة بالشباب والحكمة .. كان الناس في هذه الحديقة يلعبون ويستمتعون بطعامهم وعندما يهمون بالمغادرة ، يقفون أولاً أمام هذا
التمثال وينحنون له بكل إحترام ثم ينصرفون .. فدفعني حب الاستطلاع الى البحث عن حقيقة هذه الشخصية وسر إحترام الناس لها , حينها رأيت رجلاً
عجوزاً جالساً بقرب التمثال ، فتقدمت نحوه وسلمت عليه وإستأذنته بالجلوس ، فأذن لي
وبادرته بالسؤال عن قصة هذا التمثال وسبب تقديس الناس له ، وهل هو آلهة أم ماذا ؟
فأجابني قائلا : إن هذا الرجل الذي خلده شعبنا
بهذا التمثال ، يحكي لنا قصة غطرسة الانسان ونبله ، تعاليه وتواضعه ، كذبه وصدقه ،
خيانته وأمانته .
فقلت له متعجباً : هذه صفات متناقضة ،
فكيف يمكن أن تجتمع مع بعضها ؟
قال العجوز : تجتمع عندما يظهر الانسان
غير ما يخفي داخله , عندما تزور الحقائق وتطمس المعالم ويغيب الحق وينتشر الفساد
.. لا أريد أن أطيل عليك أيها الغريب
وسأروي لك قصة هذا التمثال :
(( عندما كانت الامبراطورية
الرومانية تسيطر على العالم القديم ، إنتشر البذخ والرخاء عند الرومان ، الذين عدوا أنفسهم
أوصياء على بني البشر يتحكمون في مصيرهم
كيف شاؤا .. في هذه الدولة ظهر فلاسفة وعلماء ومنهم حكيم شاب يدعى (إليوت) ، خبر الفلسفة وعرف أصول السياسة ، فدفعه تفكيره العميق الى تأمل واقع البشرية في ظل
دولته , وكان مقربا من إمبراطور روما آنذاك , وفي إحدى الامسيات سأله
الامبراطور قائلا : قل لي بصراحة يا
إليوت ، كيف ترى دولتنا وما تقييمك
لسياستنا ؟
فأجابه إليوت قائلا : أيها الامبراطور
العظيم , إن دولتنا ولدت في الدماء ورضعت الدماء ولسوف تغرق في الدماء .. وإن ما نفاخر به من أمجاد الانتصارات لايتعدى كونه سطواً مسلحاً على ملك الغير ،
وبهذا الفعل حولنا معاركنا ضد الشعوب الى
جرائم ، تضيف الى تاريخنا عاراً لاتمحه
السنون .
فقال الامبراطور : لاأعتقد ان في هذه
القاعة من يشاركك هذا الرأي ، ولو كان كلامك صحيحا لما أعجب بدولتنا
وحضارتنا أناس لاينتمون الى قوميتنا ، ومع
ذلك ساعدونا في السيطرة على شعوبهم وحكمها
برأينا وبعلوم حضارتنا .
قال إليوت : أنت تعتبر سكوت من هم حولك
خوفاً منك أو طمعاً في رضاك إقراراً بصحة ماتفعله , وهو أمر يرفضه العقل .. أما
إعتمادك على حثالات الشعوب الحاقدين على شرفاء قومهم في نقل معلومات سهلت لك إحتلال بلادهم فهذه عمالة وخيانة مدفوعة الثمن , وليست إعجابا منهم
بحضارتنا أو خيراً ارادوه لشعوبهم كما
تريد أن توحي إلي بذلك متفاخراً .
فقال الامبراطور بغضب : إنني أعلم أثر
الخيانة في تحطيم الحضارات ولا يعقل أن أرفع من شأن هؤلاء الصنائع الخونة
لأني بذلك أحرض من هم حولي على خيانتي ، فأكون كمن يحفر قبره بيده .. إني أعلم مدى وضاعتهم لذا
لاأئتمنهم ولاأحترمهم في قرارة نفسي , لأن
من خان قومه وأرضه التي ولد فيها ، فشرب
ماءها وإستنشق هواءها بدراهم معدودة ومناصب هزيلة قلدته إياها ، سينقلب علي في يوم
ما ، إذا أمن عقوبتي أو وجد من يدفع له أكثر مني , إنهم عبيد المال والمناصب , لاأمان ولاوفاء لهم لأحد .. ولكني مع علمي
بدناءتهم أستخدمهم الى أن ينتهي مفعولهم ، فأرمي بهم الى شعوبهم لتقتص منهم أو قد
أقتل بعضهم لاخيف البعض الاخر , فأنا كالنار التي تغري الناظر بضياءها وتحرق كل من
لامسها .
أحس إليوت أن الامبراطور إمتعض من آرائه الصريحة ، فقرر الرحيل من روما كي
يأمن على نفسه , فأستاذن إليوت الامبراطور بالانصراف فأذن له .
رحل إليوت من روما متنقلاً بين بلاد الله الواسعة ، فزار شعوبا مختلفة وقرر
الاستقرار بأرض تدعى (بلاد الفضائل ) حيث
الماء الوفير والمروج الخضراء وقبائل رعوية
بدائية .. وهنا يتحدث إليوت عن شعب الفضائل في مذكراته قائلا :
كانوا أناس رعويون تمتاز أجسامهم بالصلابة والرشاقة ساهمت طبيعة الحياة
القاسية التي عاشوها في تكوينهم الجسماني , كانت نظراتهم إلي لاتنقطع لغرابة ملابسي وجمالها , إقترب مني بعض الاطفال
وأرادوا لمس ثيابي الانيقة ، فسمحت لهم بذلك وبعدها قدموا لي الطعام وإهتموا بفرسي
دون أن يطلبوا مني أي مقابل ، مما جعلني
أحبهم وأطمئن إليهم فعزمت على البقاء معهم
، ويوما بعد يوم إزداد حبي لهم وقويت علاقتي معهم ، فأشركوني في ألعابهم وفي
أمسياتهم حول النار في ليالي الشتاء الطويلة ، حيث كانت حكاياتهم تعكس بساطة
واقعهم وسلامة نيتهم وصفاء نفوسهم ، إضافة
الى تفاخرهم ببطولات أجدادهم في الدفاع عن أرضهم .. كانوا يعشقون الشعر والغناء ولكن بايقاع حزين ، لم أكن أدري
لماذا ؟
وخلال تواجدي معهم تعرفت بأمير
بلاد الفضائل ، وهو رجل كبير السن تبدو عليه علامات الوقار والهيبة والحكمة
المكتسبة من التجارب ، فأكرمني بأجلاسي الى جانبه ، كلما حضرت الى خيمته الكبيرة
التي يجتمع فيها مع كبار القوم وحكمائهم .
أحببت العيش مع هؤلاء القوم الذين عاملوني كواحد منهم , فأحببت عذوبة أخلاقهم وصفاء نفوسهم ، إلا أن
هذه الحياة السعيدة الهانئة لم تدم طويلاً ، فجاة رأيت رسول الامبراطور يدخل
خيمة أمير الفضائل ، عندها علمت أن أيامي
في هذه الارض باتت معدودة ، كنت أعرف هذا الرسول فهو من أتباع الامبراطور المقربين يدعى ( جون) , فأسرعت الى
الخيمة وهناك رأيته يعرض على أمير الفضائل أحد أمرين :
إما أن يقبل بوضع شعبه وأرضه تحت تصرف الامبراطور ويدين بالولاء له وإما أن
يختار الحرب .
هنا توجه أمير الفضائل الى رسول
الامبراطور بالسؤال التالي :
ماالفائدة التي سيجنيها شعبنا بقبوله وصاية دولتكم علينا ؟
فقال رسول الامبراطور : سنحميكم من غزو
الاعداء ، وسنبني لك بيتا بدل هذه الخيمـة المتواضعة .
فقال أمير بلاد الفضائل : إنكم تريدوننا
أن نكون كالماشية وأنتم رعاتها ، ومن
حولها كلابكم لتحميها من الذئاب فتنتفعون بصوفها ولحمها بعد ذبحها وهي مستسلمة
لاتملك من أمرها شيئا .
أحس رسول الامبراطور بان أمير بلاد الفضائل رافض لهذه الفكرة , فحاول ان
يبث اليأس في قلبه قائلا :
أيها الامير لن تجدوا من يتحالف معكم ضدنا
، فالكل يريد رضاءنا ويخشى عقابنا ، فأمتثل لأمر إمبراطورنا كما إمتثل غيرك
، تنج بنفسك ومن معك ، من ذل الاسر أو موت
لافرار منه لأحد .
فنهض أمير بلاد الفضائل على قدميه ونهض الجميع معه , وقال لرسول الامبراطور : قل لسيدك بأننا شعب
حر ، وسنقاتلكم ولكن ليس لوحدنا ، بل ستقاتل الارض والسماء معنا .
فغادر رسول الامبراطور الخيمة وهو مكفهر
الوجه , ليعلم إمبراطوره بما جرى .
وتساءلت مع نفسي ، هل أبقى بين هؤلاء القوم الذين قد يدفعهم كرههم لروما الظالمة الى قتلي إنتقاما من عدوان
إمبراطورنا المرتقب .. أو قد يساوموه على حياتي التي لاتساوي عنده شيئا ، فهو يذبح الالاف من الرومان في
حروبه ليضيف رقما جديداً الى إنتصاراته ، أم أبقى معهم لألاقي نفس مصيرهم على يد
أبناء جلدتـــي ( الرومان).
وهنا إلتفت إلي أمير بلاد الفضائل قائلا : أيها الحكيم إليوت لقد سعدنا
برفقتك لنا ، فاذا كنت ترغب بالبقاء فلك هذا ، وإن كنت ترغب بالرحيل عنا فأرحل من
غير إحراج ، فأن مشكلتنا مع إمبراطوركم لا مع شعبكم , ونحن لانحكم على الشعوب
بذنوب قادتها .
هنا أذهلتني حكمة هذا الامير الذي لم يدرس الفلسفة مع أنه يتكلم بها ، في
موقف عصيب قد تتغلب فيه عصبية الانسان على إتزانه فيلجأ إلى الانتقام من كل ما له
علاقة بعدوه .
لقد منحوني حياة جديدة لم أجدها إلا في أحلامي ، فقررت أن أبقى معهم كجزء من وفائي لهم , ومرت الايام وفجأة سمعت صوت طبول الحرب , فهرعت مع الناس لنرى جيش الامبراطورية
الرومانية وهو يتقدم بالاف الجند وأدوات التدمير التي سحقت بها آمال الشعوب الفقيرة
, كنت أرى مقدمة الجيش ولم أكن أدرك ببصري مؤخرته , وعلمت بأن قائد هذا الجيش
الجرار هو ( هرقل) العملاق , كثيراً ما
كنت أسمع عن إنتصاراته وقسوته في التعامل
مع الاعداء ، حيث كان يدخل على إمبراطورنا
وهو يجر ملوك وأمراء الشعوب الثائرة وهم مكبلين بالاغلال ليضعهم بين يديه ,
فتملكتني رهبة داخلية وأحسست بأن رياح روما الصفراء ستعصف بهذه البلاد ، بل إني
أكاد أشم رائحة دماء أبناء شعب الفضائل البريئة وهي تسيل .
كان أمير الفضائل يقف الى جانبي متأملا هذا الجيش وقائده الشهير ، الذي كان
يتحرك أمام جيشه كألاسد الهائج المنتظر لحظة الانقضاض على فريسته ليمزقـها.
فنظرت الى وجه أمير بلاد الفضائل ،
لاتبين حالته النفسية وهو يرى هذا الجيش , فرأيته رجلاً لاتهزه الرياح
العاتية , رجلاً مستعدا للموت من غير تهور .. إنتصاراً منه للمباديء التي يحملها
وللبلاد التي أنجبته ، فهو إبن هذه الارض وأميرها ..
وإنقطع الصمت بيني وبين الامير عندما قال لي بأبتسامته المتواضعة : أيها الحكيم إليوت ، هناك أمر يحيرني أريد أن
أستشيرك فيه .. فقلت له : وما هو ؟
فقال الامير : كم نحتاج من الوقت لدفن هذه
الالاف المؤلفة من جيش الرومان ، إذا ما قتلناهم جميعا ؟ فلم أتمالك نفسي من الضحك .. وقلت له : قد
تحتاج الى سنين عديدة .
لقد أعطاني هذا الامير درساً في القيادة الشجاعة ، التي ترفع من معنويات
أتباعها في وقت المحنة .. لكني مع هذا شعرت بأن شجاعة هؤلاء القوم ستكلفهم الكثير
من التضحيات ..
كان شعب الفضائل قد إستعد لمعركة
دامية طويلة الامد ، وبعد أيام قلائل بدأت المعركة بهجوم الالاف من الرومان ،
فكانوا كالسيل الجارف وكأنهم جراد يترنح .. فإذا بسهام شعب الفضائل ومصائدهم
وشجاعة فرسانهم رجالاً ونساء تتخطف هذه الرؤوس من أجسادها ، وكأن الارض تقاتل مع
أبناءها .
إن هول الهزيمة غير المتوقعة من قبل الرومان في اليوم الاول ترك أثرا سيئا
على معنويات جنودهم ، فحاول هرقل رفع معنوياتهم في اليوم الثاني بان تقدم أمام جيشه وطلب مبارزة العدو , فخرج
إليه إبن أمير شعب الفضائل وهو شاب رشيق
صلب البنية متمرس بفنون القتال ، وبدأت المبارزة فأصيب هرقل إصابة غير مميتة ،
وحاول الانسحاب لتضميد جرحه ولكن إبن امير الفضائل أجهز عليه , فعم الفرح والسرور
شعب الفضائل , كما إنتشرت الفوضى بين صفوف
الرومان وهم يرون قائدهم الشهير يسقط أمامهم صريعا .
حينها بكيت شجاعة هرقل التي أهدرها إمبراطورنا في حروبه وأطماعه ، وفرحت لأن المعركة ستتوقف
قريبا لتضع حدا لسفك دماء الرومان وشعب الفضائل ، وفعلا إضطر الجيش الروماني الى
الانسحاب حاملاً جثمان قائده الى روما .
بعد إنتهاء المعركة بقيت في بلاد
الفضائل عدة سنوات , فأحسست بالحنين الى الوطن , الى روما , الى كتبي ودراساتي
, فإستأذنت أمير الفضائل بالرحيل فحزن لهذا الفراق ، وأكرمني بالسير معي
الى أبعد منطقة يمكن أن يأمن فيها من غدر
إمبراطورنا ، ثم تركني لأواصل رحلتي الى روما .
بعد وصولي الى روما بأيام علم إمبراطورنا بأمري فبعث بطلبي ، فقد كنت من
أصدقائه المقربين ، وعندما إلتقيته قال لي : لقد أخبرني (جون ) بوجودك في بلاد
الفضائل إنك رجل محظوظ , لقد نجوت من
الموت مرتين : الاولى : من أنتقام شعب الفضائل منك لعلمهم بأنك روماني . والثانية
: في المعركة التي حصلت بين جيشنا وهؤلاء
الرعاع .. لاأريد أن أطيل عليك , فأني لم أرسل في طلبك لتبادل الاحاديث ولكن لأمر هام فيه خدمة بلدك وإمبراطورك ، وقبل
أن أعلمك به أريد أن اعرف رأيك بآثار هذه
المعركة على تأريخنا ؟
كان قلبي يعتصر ألما على دماء شعبي وشعب الفضائل التي سالت
لأجل أطماع شخصية وأمجاد وهمية .. فقلت له : أيها الامبراطور العظيم , لقد
منحت شعب الفضائل شرفاً لايستطيع أحد أن ينتزعه منهم .
فقال الامبراطور : وأي شرف هذا ؟
فقلت له : إنه شرف تضحية شعب بحياته لأجل
الحفاظ على كيانه وهويته ووجوده على أرضه دون مساعدة من أحد ، قد يستطيع أن يقاسمه
مجده بالانتصار على أعظم جيش في العـالم .
لم يكترث الامبراطوربكلامي هذا , وسألني
عن قائد جيشه (هرقل) الذي قتل , فقال: هل رأيته قبل موته ؟
قلت له : نعم , رأيته يهرب بعد إصابته
ولكن إبن أمير الفضائل أجهز عليه .
فقال الامبراطور : إن أمر هرقل يحيرني ,
فقد عرفته رجلا شجاعا لايخاف الموت فكيف يهرب منه ؟
فقلت له: إن هرقل لم يهرب من موت مشرف
لأجل وطنه وشعبه ، ولكنه هرب من موت مخزي سيوصم به بعار العدوان على شعب بريء آمن
.
فقال الامبراطور بغضب : ألم يقل شيئا قبل أن يموت ؟
قلت له
: كلا .
فقال الامبراطور : أريد منك وأنت شاب حكيم طموح عرفت لغة شعب الفضائل
وعاداتهم لسنوات أن تكتب تأريخ هذه الحملة العسكرية ، فتقول : إن القائد الروماني
الشهير هرقل العملاق أصيب أثناء المعركة
ورفض الانسحاب لتضميد جراحه فمات
متأثراً بها وقبل موته ، صرخ قائلا (لأمت أنا , ولتحيا روما ) ، وأن تجعلني
أنا المنتصر عليهم أمام التأريخ وقد هزمتهم , وتفضلاً مني عليهم ، سمحت لهم
بالبقاء في تلك الارض ، ليتصور الناس مستقبلاً مدى عظمة إمبراطور ملك القوة
والرحمة في آن واحد .
فأجبته قائلا : أيها الامبراطور , لقد
كتبوا تأريخهم بحبر لايمكن أن يمحيه أحد ،
وبورق لايمكن أن يمزق .. لقد كتبوا تأريخهم بدمائهم وعلى أرضهم التي جعلوها مقبرة
لأعدائهم .. فهل تريد سلبهم مجد الانتصار ، وتبدله بعار الهزيمة وإستجداء الرحمة
منك ؟ .. لقد إشتروا حريتهم بدمائهم وقد إنتصروا عليك ، وليس أمام أمثالك من الحكام إلا أن يعترفوا بهذه الحقائق
.
فقال الامبراطور بغضب شديد : إليوت لقد
تجاوزت حدك وجنيت على نفسك بتجرأك على إمبراطورك ورفضك لرغباته بوقاحة ، فأطلب مني
ما تشاء وترغب قبل موتك ؟
فقلت له : لي مطلب وحيد , وهو أن أموت
وأدفن في بلاد الفضـائل .
فقال الامبراطور : ولماذا ؟
فقلت : لقد شاهدت لأول مرة في حياتي أناس
لايظهرون إلا ما يبطنون من حب أو كره ، وأحسست بينهم بالنقاء الروحي والمحبة
الصادقة المتجردة من المصالح الشخصية الانانية ، هذه السعادة الروحية لم أشعر بها
من قبل , ولم تكن فلسفات الرومان والاغريق التي درسناها قادرة على إيصالنا الى ما
وصل هؤلاء القوم إليه .. وهم ليسوا رعاعاً متوحشين كما تتصور , بل أناس أذكياء
وجدوا سعادتهم في محبتهم لبعضهم ورضاءهم
بقدرهم ، ووجدنا نحن سعادة زائفة ببناء كل ما هو حولنا وتخريب نفوسنا وبعدم
قناعتنا بما نملك ، فعشنا كالوحوش التي
لايشبعها شيء , فتولد داخل نفوسنا الشعور بالنقص والحاجة المستمرة , والخوف
من فقدان ما حزناه .. لذا أحببت أن تضم تلك الارض الطيبة رفاتي لأنعم بالراحة
الروحية والى الابد .
فقال ألامبراطور : بإستخفاف لك هذا ..
أنظر ياإليوت مع كونك شابا إلا أن لك حكمة الشيوخ ، وقد أحببت رفقتك لي لعلمي
بصدقك وإخلاصك ، رغم صراحتك الوقحة ، ولكن تركك حياً سيفسد علي خططي ، لهذا فان في
قتلك موت لحقيقة لاأريد أن يطلع أحد عليها مستقبلا ، وهنا صرخ الامبراطور قائلا :
أيها الحرس خذوه الى السجن .
في السجن بدأت أكتب مذكراتي عن شعب الفضائل , وأنا أعلم بأن إمبراطورنا سوف
لن يتراجع عن غطرسته ويتركني حيا , وزارني في السجن خفية أحد أصدقاء طفولتي وهو(
زيوس) كان ضابطا في حرس القصر ، وأوصيته في حالة موتي أن يدخل الى سجني ويأخذ هذه
المذكرات وينشرها بين الناس في روما وفي بلاد الفضائل , كي أحمي تاريخ هذا الشعب
من التزوير والتحريف الذي قد يقوم به إمبراطورنا ، فوعدني زيوس خيراً وإنصرف ..
أما الان فأعذروني عن مواصلة كتابة مذكراتي فإني أسمع صوت اقدام تقترب من سجني ,
لعل نهايتي قد إقتربت , لذا لايسعني إلا
أن أقول لكم وداعا .)
فسار الحكيم إليوت بخطواته الواثقة إلى موقع إعدامه إلى الارض التي أحبها
وأحبته إلى الارض التي أحس بأنه يعرفها منذ زمن بعيد .
هنا إلتفت إلي الرجل العجوز , وقال لي : هذه الحديقة هي موقع إعدام إليوت ،
وهذا هو تمثاله الذي أقامه شعبنا له إعترافا منه بوفاء الانسان لأخيه الانسان وحفاظا على روح الحقيقة التأريخية التي ضحى
لاجلها إليوت ، إنه بحق شهيد الكلمة .))
فشكرت الرجل العجوز وقلت له : لقد أتعبتك ياعم برواية هذه القصة الشيقة ,
ولقد حان أوان مغادرتي لهذه البلاد الطيبة لأرجع الى بلدي وأنقل لهم ماسمعته منك ،
ولا أدري هل سيطول بي العمر لأزور هذه البلاد العجيبة ثانية أم لا .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق