الاثنين، 9 سبتمبر 2013

الوحي الالهي ... مصدر الحقائق العظمى .





بقلم : يسار محمد قاسم
   الفكر الانساني هو نتاج تجارب الاجيال السابقة التي وصلت إلينا عن طريق القراءة أو السماع ، ويتعزز بأضافة تجارب الاجيال الحاضرة  إليه وبالحوار المولد  للعمل الجماعي ، ولكن هذا لايعني أن العقل هو المصدر الوحيد  للوصول الى الحقيقة وإلا نكون قد حصرنا المعرفة الانسانية بالمحسوسات ، بل هناك طريق آخرهو الوحي الالهي المتمثل بالرسالات السماوية فهي التي أطلعتنا على الغيبيات التي عجز العقل عن الوصول إليها وحده فأجابت على أسئلة حيرت الانسان منذ القدم وهي : ماهو أصل الانسان ؟ وهل الانسان كائن عاقل وحيد في الكون أم أن هناك إله أزلي كامل الصفات أوجده ؟ وماهي صفات هذا الخالق العظيم ؟ وماهو الطريق لأرضائه أو إسخاطه  ؟ ولماذا تنتهي حياة الانسان  ؟ وهل هناك حياة بعد الموت أم لا ؟ وهل للكون نهاية ومتى؟   . .. أسئلة  تقع أجاباتها في عالم الغيب ، لهذا حيرت الانسان وتعددت تفسيرات الاديان الوثنية في الاجابة  ، أما الاديان السماوية فقد إتفقت  إجاباتهالأتفاق السراج الذي صدرت منه وهو الله جل في علاه ، وجميع تلك الاسئلة كان للأجابة عليها جانبان روحي ومادي مما يدلنا على أن الحياة لاتستقيم إلا بالموازنة بينهما ... ومع أن إدراك الذات ثم المحيط الذي يعيش فيه الانسان هو قاعدة الانطلاق العلمي السليم  في الحياة، إلا أن العقل الانساني محدود بالمحسوس من الموجودات التي عرفها او اكتشفها وعلى امثالها يقيس ، لذا فإن الحكمة الالهية والرحمة الربانية شاءت أن تخرج الانسان من حيرته وأن تجيبه على كل ما يشغل تفكيره ، وأن تنير طريق الحياة بنظام سماوي لأعمار الارض وتكرم العقل الانساني بتخييره بين الاتباع والثواب وبين العصيان والعقاب ... فأصطفى الله رسلا من خلقه أوحى إليهم أن يبلغوا شرعه للناس كي يكونوا مبشرين بالثواب للمؤمنين ومنذرين بالعقاب للكافرين ، وشهداء على الناس ..
    وكان الوحي هو صيغة إبلاغ الانبياء والرسل بألارادة الالهية  ، ليحملوها كأمانة يقومون بتبليغها لباقي البشر ...
   ولكلمة الوحي عدة معان في اللغة يقول الجوهري في الصحاح ج5 ص1999 :(( الوحي : الاشارة ، والكتابة ، والرسالة ، والالهام ، والكلام الخفي ، وكل ما ألقيته الى غيرك ، يقال وحيت إليه الكلام وأوحيت ، وهو أن تكلمه بكلام تخفيه ... ووحى وأوحى أيضا ، أي كتب .. وأوحى الله الى أنبيائه ، أي اشار قال تعالى :( فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا ) سورة مريم آية11 .))... إذن الوحي هو رسالة إلهية الى احد أنبيائه ليبلغها لباقي البشر ، وجميع الكتب السماوية هي رسالات إلهية لأصلاح حال الانسانية، وللوحي  عدة أشكال منها : الرؤيا الصادقة ، أو مايلقيه الملك جبريل عليه السلام في روع النبي صلى الله عليه وسلم أو قد يسمع صوته من غير أن يراه ، أو أن يكون مجيئه كصلصلة الجرس ، أو قد يظهرالملك جبريل عليه السلام  على صورة رجل ، أو قد يكلم الله النبي من وراء حجاب بلا واسطة كما كلم الله موسى عليه السلام ، وهناك أحاديث نبوية تؤكد هذه الصيغ التي يتمثل بها الوحي .
  ولازال بعض المفكرين الغربيين يعتقدون أو يفهمون الوحي على أنه إلهام يحدث لأصحاب النفوس الصافية نتيجة للعزلة والتأمل بالكون ، وليس رسالة سماوية من إله قدير سميع بصير، فيقول الفيلسوف الشهير توماس كارليل في كتابه ( الابطال) ص85 : (( والقرآن لو تبصرون ما هو إلا جمرات ذاكيات قذفت بها نفس رجل كبير النفس بعد أن أوقدتها الافكار الطوال في الخلوات الصامتات وكانت الخواطر تتراكم عليه بأسرع من لمح البصر وتتزاحم في صدره حتى لاتكاد تجد مخرجا ، وقل مانطق به في جانب ما كان يجيش بنفسه العظيمة القوية ....)) .. على الرغم من أن توماس كارليل من أكثر الكتاب المنصفين الذين تناولوا الاسلام كدين سماوي كالمسيحية واليهودية  ، إلا أن فهمه للوحي كان خاطئا في صيغته التي قدمها في كتابه ..
   فالوحي كان  ملك نزل من السماء بأمر خالق الكون ، وليس إلهام داخلي أو علم مكتسب بالرياضة الروحية او البحث العلمي  كما إعتقد ذلك بعض علماء الغرب .. يقول الشيخ محمد رشيد رضا في كتابه القيم ( الوحي المحمدي ) ص46 :((  الخلاف بيننا وبين هـــؤلاء (  يقصد علماء الغرب) في كون الوحي الشرعي من خارج نفس النبي نازلا عليها من السماء كما نعتقد ، لامن داخلها فأئضا منها كما يظنون ، وفي وجود ملك روحاني مستقل نزل من عند الله عليه صلى الله عليه وسلم ، كما قال عز وجل :( وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الامين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين ) الشعراء آية192-195 .))
  وإذا ماتأملنا في الانسان وجدنا  بأن هناك خصائص مهمة لازمته  قديما وحديثا ، هيأته للأيمان بالوحي الالهي  وهي :
أولا : الفكر الانساني يتطلع نحو المطلق والغيب : وهذا النزوع يجعل الفكر الانساني يتجاوز بتفكيره حدود العالم المحسوس الذي يعيش فيه ، لذا فمن العبث ومن التحجيم للعقل البشري أن نحصره في نطاق المحسوسات المكتشفة كما يريد ذلك أنصار المذهب الفلسفي الوضعي، فطريق الدين يختلف عن طريق الفلسفة ، فالفلسفة تقوم على التجرد من اي أفكار أو معتقدات مسبقة وتعتمد على الشك في كل شيء كوسيلة للوصول الى الحقيقة .. أما الدين فيعتمد بعد إقتناع الانسان العقلي والرضا النفسي على الايمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والقدر خيره وشره ، ويصدق كل ما بلغوه الرسل من شرائع سواء ظهرت حكمتها واسبابها أم إستترت وغابت عنه ، قال تعالى :( فلا وربك لايؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لايجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ) سورة النساء - آية65...  فالدين حاكم لامحكوم ، متبوع لاتابع ، كما أن حضارتنا الاسلامية  قامت دعائمها على اساس الوحي الالهي السماوي .
ثانيا : الحياة الانسانية  لها جانبان روحي ومادي : وقد إستطاع العلم الحديث أن يثبت إن الجانب النفسي والروحي في الانسان وثيق العلاقة بجانبه المادي المتمثل بالجسد ، فقسوة الحياة وإبتذال قيمها الاخلاقية وتفكك المجتمع وأنعدام الرحمة المتمثل في عقوق الوالدين ، جعلت أحد كبار الاطباء الماديي التفكير يقتنع بتأثير الجانب الروحي الالهي في الحياة الانسانية ، ففي كتاب ( الله يتجلى في عصر العلم ) لجون كلوفر مونسما ص134 ـ ص135 .. تحدث الدكتور بول أرنست أدولف عن حادثة كان لها وقع كبير في نفسه ، ففي أحد الايام زارته إمرأة عجوز تشكو من كسر في ردفها فقام بمعالجتها ولما تماثلت للشفاء وأثبتت الفحوصات حسن حالتها الصحية العامة ، بدت هذه العجوز فرحة ، لأن إبنتها ستأتي لتأخذها ، ولكن عند زيارة إبنتها لها أخبرتها بأنها غير مستعدة لأخذها الى البيت وستضعها في أحد ملاجيء المسنين ( العجزة ) مما تسبب لهذه الأم  بأحباط  نفسي شديد ، وبعد بضعة ساعات من مغادرة إبنتها للمستشفى  ، بدأت هذه الأم المسكينة بألاحتضار الى أن اسلمت الروح الى بارئها  ، يقول الدكتور بول إرنست عن هذا المرأة العجوز :( إنها لم تمت من كسر في ردفها ، ولكنها ماتت من إنكسار في قلبها ) ، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
ثالثا : النفس الانسانية تستجيب وتطمئن بالخضوع لأرادة إلهية أزلية عليا :  إن العلم ذو مقاصد مبنية على المصلحة وإشباع الرغبات والشهوات ، وبما أنه مشاع لايختص به شعب أو أفراد دون الاخرين ، لذا فلا سلطان للعلم على النفس البشرية، لأن كل إنسان يرى أن بامكانه إفحام من هو أعلى منه علما حاضرا أو مستقبلا ، ولكنه يقبل الخضوع لقوى غيبية قادرة على نفعه وهي ليست من جنسه ، لذا فسلطان الدين على النفوس أقوى من سلطان العلم والمعرفة .. يروى أن الفيلسوف الرئيس إبن سينا كان متدينا وكان له غلام غير مسلم  معجب بفلسفته ويبالغ في إحترامه وتقديره ، وفي أحد الايام سافر إبن سينا وخادمه الى مدينة أصفهان وفي وقت السحر نادى إبن سينا على الغلام  كي يهيء له ماء الوضوء فلم يجبه لشدة البرد في ذلك اليوم ، ثم كرر عليه النداء عندما سمع أذان المؤذن فأعتذر الغلام لبرودة الجو ، فاراد إبن سينا أن يفهم الغلام بأن سلطان الدين على النفوس أكبر من سلطان العلم ، فقال له : ياغلام أنت خادمي وتحبني وتجلني لعلمي ، ومع هذا  لم تنفذ أمري لك بتهيئة ماء الوضوء ، بينما هذا المؤذن هو فارسي مسلم يصعد الى المنارة وهي اشد الاماكن برودة في المدينة ليؤذن ويدعو الناس الى الصلاة إمتثالا لأمر الله سبحانه بإقامة الصلاة .
  و من الفلاسفة من أدرك  أهمية الاعتقاد الجازم بمنهج  للحياة ، فدعى الى دين عقلي مبتدع من قبله  يقوم بدل الاديان السماوية والوثنية الموجودة في العالم ومنهم الفيلسوف المعروف ( أوجست كونت ) حيث وجد أن التطور البشري خضع لتطور المفاهيم الدينية فإعتقد بضرورة خلق ديانة ملائمة ، ديانة عقلية، ديانة إنسانية ، وهو القائل :(( إذا اردنا مجتمع يسوده النظام من اجل التقدم فيجب أن ننمي لديه ، والى أقصى  حد ممكن ( ديانة  ملائمة ) .... وهذه الديانة أين نجدها ؟ ليس في الماضي ... إن البشر بحاجة الى ديانة عقلية جديدة ...))
  حيث إعتقد أوجست كونت بأن فلسفته الوضعية ستتخذ كدين إذا نجحت في إحلال إيمان علمي ( قابل للبرهنة عليه ) محل  إيمان غيبي ( متمثل  بالمعتقدات غير القابلة للاثبات ) والتي عرفها الانسان عبر تاريخه الطويل منذ فجر الانسانية ، ففلسفته لاتقر بالدين وترى أنه غير علمي لأنه لايخضع للملاحظة والتجربة ، وبالتالي فمذهبه الالحادي يدعو فيه الى عبادة الانسانية ... والانسانية كما نعلم مفهوم عام لايصح أن يعتبر كمقياس لأن مفاهيم الخير والشر والمنفعة والمضرة  نسبية عند البشر ، وهذا النوع من التفكير عبارة عن سفسطة فارغة لطروحات سخيفة بعيدة عن عن الواقع .
       ولا يعقل أن يصدق البشر كل من إدعى النبوة بأنه مرسل من عند الله .. لذا أيد الله سبحانه أنبيائه بالمعجزات الخارقة لعادات وأعراف البشر فيما خبروه وعرفوه ، فأرسل سيدنا موسى الى قوم فرعون الذي شاع في زمانهم السحر وفنونه فأعجزهم  ، وبعث سيدنا عيسى الى قوم عرفوا بالطب فأحيا الموتى وأبرأ الاعمى والاصم بأذنه تعالى ، وبعث نبينا محمد صلى الله عليه وسلم الى قوم عرفوا بالبلاغة والفصاحة فكان القران الكريم معجزا لهم وقد تحداهم بأن يأتوا بسورة من مثله فعجزوا وإنقلبوا صاغرين ، قال تعالى :( وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا  فأتوا بسورة من مثله وادعوا  شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين ) البقرة _ آية23..
   وعلى الرغم من وقوع معجزات خارقة على يد نبينا صلى الله عليه وسلم ذكرتها كتب السيرة منها : إنشقاق القمر بأشارة منه ، ونبع الماء من بين أصابعه وتكثيره ببركته يوم الحديبية ، وتكثير الطعام  ببركة دعائه يوم الخندق حيث أطعم ألف رجل بأذن الله سبحانه وتعالى  ، وإبراء المرضى وذوي العاهات بإذن الله، إلا أن  المعجزات الخارقة للسنن الكونية التي أيدالله بها أنبيائه لم يبق منها إلا أخبارها ، كما أنها دليل إثبات ارسال النبي من عند الله سبحانه وتعالى  ولكنها ليست منهجا يتبعه البشر  ،   لذا كان القرآن الكريم هو معجزة الاسلام الكبرى القائمة والشاخصة للعيان في كل زمان ومكان ، لاتنقضي عجائبه وهو  يخاطب العقول والقلوب  معا ، فجاء متوافقا مع تطور الفكر الانساني وملبيا  لأحتياجاته الروحية والمادية   ، وهو باق  كدستور حياة  ، وزادا للمعاد ، و حجة على البشر الى يوم يبعثون ، قال تعالى :( إنا نحن نزلنا  الذكـر  وإنا لــــه لحـافـظــون )الحجر/ آية9 .
    فالقران الكريم أزاح حاجز الغيب عن الماضي ، بذكر أخبار الانبياء والامم السالفة التي كانت مجهولة لايعلمها إلا الله  .. قال تعالى (( تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ماكنت تعلمها أنت ولاقومك من قبل هذا فأصبر إن العاقبة للمتقين ) هود _ آية49.
    وأزال حجب الغيب عن المستقبل ، وذكر بأن الروم الذين خسروا إحدى معاركهم مع الفرس سينتصرون عليهم فيما بعد، وحصل ما بشر به القران الكريم  .. قال تعالـــى :( غلبت الروم في أدنى الارض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين لله الامر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المـؤمنـون ) الروم - آية(2-4).
    بالاضافة الى أن القرآن الكريم بين حقائق الكون الغائبة عن الانسان ، فجاءت الكشوفات العلمية الحديثة مؤيدة له : حيث كشف علم الفلك بأن النجوم تبعد عن بعضها البعض مسافات شاسعة تقاس بآلاف السنوات الضوئية ، والتي تعادل ملايين الملايين من الكيلومترات فقال تعالى : ( فلا أقسم بمواقع النجوم وإنه لقسم لو تعلمون عظيم ) الواقعة / آية75-76... كما بين العلم بأن الكون يتوسع ويتمدد قال تعـالــى :( والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون )الذاريات/ آية47 ... واثبت علم الارصاد بأن إرسال الرياح هو سبب إثارة السحب ونزول المطر ، قال تعالى (( الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا فيبسطه في السماء كيف يشاء ويجعله كسفا فترى الودق يخرج من خـــلاله .....)) الروم/ آية48... وتوصل الانسان الى اختلاف الضغط الجوي عند الارتفاع عن سطح الارض بالطيران ، فيقل الاوكسجين فيضيق صدر الانسان  قال تعالى :(...ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء .... )الانعام/ آية125.. وغيرها من الاسرار العلمية التي لم تكن معروفة  وقت نزول الوحي ... هذه الحقائق الكونية دفعت الكثير من المكتشفين والعلماء الغربيين الى الايمان بصدق الاسلام كرسالة سماوية، بل وإعتنقه عدد منهم ، وبهذا غدا القران الكريم إعجاز متجدد متعاظم الى يوم يبعثون يدعو ذوي العقول النيرة إليه .
    إن رجلا أميا في بيئة عربية قبلية متخلفة علميا عن بقية الشعوب ، يأتي بكتاب سماوي يحوي كل هذه الحقائق العلمية وغيرها مما لم يستطع الانسان الوصول إليه الا في القرن العشرين ، له دليل قاطع لكل ذي عقل على أنه وحي إلهي  أعجز أهل الارض قبل أكثر من1400 سنة واذهل علماء العصر الحديث ، بما كشفه ويكتشفه العلم الحديث مما هو موجود في القران الكريم  كتاب السماء الخالد .. إنه الدليل الساطع على القدرة الالهية المبدعة التي  بينت مدى التوافق بين الدين والعلم فعززت جانبي الحياة الروحية والمادية  في الفكر الانساني وأيقظته  من سبات الشك والجهل والخرافة ، ونقلته الى عالم الايمان والنور والحكمة التي لاتبلى ولايخفت ضياؤها على مر الدهور .
نشرت في جريدة فتى العراق – العدد231- بتاريخ18/9/2008م












أمجاد بين الوهم والحقيقة .. (قصة قصيرة )




بقلم : يسار محمد الدرزي
     في إحدى رحلاتي إلى البلاد الاجنبية ، رأيت في وسط إحدى الحدائق تمثالاً  شد إنتباهي إليه جمال ملامحه الموحية بالتواضع ، المملوءة بالشباب والحكمة .. كان الناس في هذه الحديقة  يلعبون ويستمتعون بطعامهم  وعندما يهمون بالمغادرة ، يقفون أولاً أمام هذا التمثال وينحنون له بكل إحترام ثم ينصرفون .. فدفعني  حب الاستطلاع الى البحث  عن حقيقة هذه الشخصية  وسر إحترام الناس لها , حينها رأيت رجلاً عجوزاً جالساً بقرب التمثال ، فتقدمت نحوه وسلمت عليه وإستأذنته بالجلوس ، فأذن لي وبادرته بالسؤال عن قصة هذا التمثال وسبب تقديس الناس له ، وهل هو آلهة أم ماذا ؟
 فأجابني قائلا : إن هذا الرجل الذي خلده شعبنا بهذا التمثال ، يحكي لنا قصة غطرسة الانسان ونبله ، تعاليه وتواضعه ، كذبه وصدقه ، خيانته وأمانته .
فقلت له متعجباً : هذه صفات متناقضة ، فكيف يمكن أن تجتمع مع بعضها ؟
قال العجوز : تجتمع عندما يظهر الانسان غير ما يخفي داخله , عندما تزور الحقائق وتطمس المعالم ويغيب الحق وينتشر الفساد .. لا أريد أن أطيل عليك أيها الغريب  وسأروي لك  قصة هذا التمثال :
(( عندما كانت الامبراطورية الرومانية  تسيطر على العالم  القديم ، إنتشر  البذخ والرخاء عند الرومان ، الذين عدوا أنفسهم أوصياء على بني البشر  يتحكمون في مصيرهم كيف شاؤا .. في هذه الدولة ظهر فلاسفة وعلماء ومنهم حكيم شاب يدعى (إليوت)  ، خبر الفلسفة وعرف أصول السياسة ، فدفعه  تفكيره العميق الى تأمل واقع  البشرية في ظل  دولته , وكان مقربا من إمبراطور روما آنذاك , وفي إحدى الامسيات سأله الامبراطور  قائلا : قل لي بصراحة يا إليوت  ، كيف ترى دولتنا وما تقييمك لسياستنا ؟
فأجابه إليوت قائلا : أيها الامبراطور العظيم , إن دولتنا ولدت في الدماء ورضعت الدماء ولسوف تغرق في الدماء  .. وإن ما نفاخر به  من أمجاد الانتصارات  لايتعدى كونه سطواً مسلحاً على ملك الغير ، وبهذا الفعل حولنا  معاركنا ضد الشعوب الى جرائم  ، تضيف الى تاريخنا عاراً لاتمحه السنون .
فقال الامبراطور : لاأعتقد ان في هذه القاعة  من يشاركك هذا الرأي  ، ولو كان كلامك صحيحا لما أعجب بدولتنا وحضارتنا أناس  لاينتمون الى قوميتنا ، ومع ذلك ساعدونا في السيطرة على شعوبهم  وحكمها برأينا وبعلوم حضارتنا .
قال إليوت : أنت تعتبر سكوت من هم حولك خوفاً منك أو طمعاً في رضاك إقراراً بصحة ماتفعله , وهو أمر يرفضه العقل .. أما إعتمادك على حثالات الشعوب الحاقدين على شرفاء قومهم  في نقل معلومات سهلت لك إحتلال بلادهم فهذه  عمالة وخيانة مدفوعة الثمن , وليست إعجابا منهم بحضارتنا أو خيراً ارادوه لشعوبهم  كما تريد أن توحي إلي بذلك متفاخراً .
فقال الامبراطور بغضب : إنني أعلم أثر الخيانة في تحطيم الحضارات ولا يعقل أن أرفع من شأن هؤلاء الصنائع  الخونة  لأني بذلك أحرض من هم حولي على خيانتي ، فأكون كمن  يحفر قبره بيده .. إني أعلم مدى وضاعتهم لذا لاأئتمنهم ولاأحترمهم  في قرارة نفسي , لأن من خان قومه وأرضه  التي ولد فيها ، فشرب ماءها وإستنشق هواءها بدراهم معدودة ومناصب هزيلة قلدته إياها ، سينقلب علي في يوم ما ، إذا أمن عقوبتي أو وجد من يدفع له أكثر مني , إنهم عبيد المال والمناصب  , لاأمان ولاوفاء لهم لأحد .. ولكني مع علمي بدناءتهم أستخدمهم الى أن ينتهي مفعولهم ، فأرمي بهم الى شعوبهم لتقتص منهم أو قد أقتل بعضهم لاخيف البعض الاخر , فأنا كالنار التي تغري الناظر بضياءها وتحرق كل من لامسها .
     أحس إليوت أن الامبراطور إمتعض من آرائه الصريحة ، فقرر الرحيل من روما كي يأمن على نفسه , فأستاذن إليوت الامبراطور بالانصراف فأذن له .
     رحل إليوت من روما متنقلاً بين بلاد الله الواسعة ، فزار شعوبا مختلفة وقرر الاستقرار  بأرض تدعى (بلاد الفضائل ) حيث الماء الوفير والمروج الخضراء وقبائل رعوية  بدائية .. وهنا يتحدث إليوت عن شعب الفضائل في مذكراته قائلا :
     كانوا أناس رعويون تمتاز أجسامهم بالصلابة والرشاقة ساهمت طبيعة الحياة القاسية التي عاشوها في تكوينهم الجسماني , كانت نظراتهم إلي لاتنقطع  لغرابة ملابسي وجمالها , إقترب مني بعض الاطفال وأرادوا لمس ثيابي الانيقة ، فسمحت لهم بذلك وبعدها قدموا لي الطعام وإهتموا بفرسي دون أن يطلبوا مني أي مقابل ،  مما جعلني أحبهم وأطمئن إليهم  فعزمت على البقاء معهم ، ويوما بعد يوم إزداد حبي لهم وقويت علاقتي معهم ، فأشركوني في ألعابهم وفي أمسياتهم حول النار في ليالي الشتاء الطويلة ، حيث كانت حكاياتهم تعكس بساطة واقعهم وسلامة نيتهم وصفاء نفوسهم  ، إضافة الى تفاخرهم ببطولات أجدادهم في الدفاع عن أرضهم .. كانوا يعشقون  الشعر والغناء ولكن بايقاع حزين ، لم أكن أدري لماذا ؟
     وخلال تواجدي معهم تعرفت بأمير بلاد الفضائل ، وهو رجل كبير السن تبدو عليه علامات الوقار والهيبة والحكمة المكتسبة من التجارب ، فأكرمني بأجلاسي الى جانبه ، كلما حضرت الى خيمته الكبيرة التي يجتمع فيها مع كبار القوم وحكمائهم .
     أحببت العيش مع هؤلاء القوم الذين عاملوني كواحد منهم  , فأحببت عذوبة أخلاقهم وصفاء نفوسهم ، إلا أن هذه الحياة السعيدة الهانئة لم تدم طويلاً ، فجاة رأيت رسول الامبراطور يدخل خيمة  أمير الفضائل ، عندها علمت أن أيامي في هذه الارض باتت معدودة ، كنت أعرف هذا الرسول فهو من أتباع  الامبراطور المقربين يدعى ( جون) , فأسرعت الى الخيمة وهناك رأيته يعرض على أمير الفضائل أحد أمرين :
   إما أن يقبل بوضع شعبه وأرضه تحت تصرف الامبراطور ويدين بالولاء له وإما أن يختار الحرب .
هنا توجه أمير الفضائل الى رسول الامبراطور بالسؤال التالي :
 ماالفائدة التي سيجنيها  شعبنا بقبوله وصاية دولتكم علينا ؟
فقال رسول الامبراطور : سنحميكم من غزو الاعداء ، وسنبني لك بيتا بدل هذه الخيمـة المتواضعة .
فقال أمير بلاد الفضائل : إنكم تريدوننا أن نكون كالماشية  وأنتم رعاتها ، ومن حولها كلابكم لتحميها من الذئاب فتنتفعون بصوفها ولحمها بعد ذبحها وهي مستسلمة لاتملك من أمرها شيئا .
  أحس رسول الامبراطور بان أمير بلاد الفضائل رافض لهذه الفكرة , فحاول ان يبث  اليأس في قلبه قائلا :
     أيها الامير لن تجدوا من يتحالف معكم ضدنا  ، فالكل يريد رضاءنا ويخشى عقابنا ، فأمتثل لأمر إمبراطورنا كما إمتثل غيرك ، تنج بنفسك ومن معك  ، من ذل الاسر أو موت لافرار منه  لأحد .
  فنهض أمير بلاد الفضائل على قدميه ونهض الجميع معه  , وقال لرسول الامبراطور : قل لسيدك بأننا شعب حر ، وسنقاتلكم ولكن ليس لوحدنا ، بل ستقاتل الارض والسماء معنا .
فغادر رسول الامبراطور الخيمة وهو مكفهر الوجه , ليعلم إمبراطوره بما جرى .
    وتساءلت مع نفسي ، هل أبقى بين هؤلاء القوم الذين قد يدفعهم  كرههم لروما الظالمة الى قتلي إنتقاما من عدوان إمبراطورنا المرتقب .. أو قد يساوموه على حياتي التي لاتساوي  عنده شيئا ، فهو يذبح الالاف من الرومان في حروبه ليضيف رقما جديداً الى إنتصاراته ، أم أبقى معهم لألاقي نفس مصيرهم على يد أبناء جلدتـــي ( الرومان).
    وهنا إلتفت إلي أمير بلاد الفضائل قائلا : أيها الحكيم إليوت لقد سعدنا برفقتك لنا ، فاذا كنت ترغب بالبقاء فلك هذا ، وإن كنت ترغب بالرحيل عنا فأرحل من غير إحراج ، فأن مشكلتنا مع إمبراطوركم لا مع شعبكم , ونحن لانحكم على الشعوب بذنوب قادتها .
     هنا أذهلتني حكمة هذا الامير الذي لم يدرس الفلسفة مع أنه يتكلم بها ، في موقف عصيب قد تتغلب فيه عصبية الانسان على إتزانه فيلجأ إلى الانتقام من كل ما له علاقة بعدوه .
    لقد منحوني حياة جديدة لم أجدها إلا في أحلامي ، فقررت أن أبقى معهم  كجزء من وفائي لهم , ومرت الايام  وفجأة سمعت صوت طبول الحرب  , فهرعت مع الناس لنرى جيش الامبراطورية الرومانية وهو يتقدم بالاف الجند وأدوات التدمير التي سحقت بها آمال الشعوب الفقيرة , كنت أرى مقدمة الجيش ولم أكن أدرك ببصري مؤخرته , وعلمت بأن قائد هذا الجيش الجرار هو ( هرقل)  العملاق , كثيراً ما كنت أسمع عن إنتصاراته  وقسوته في التعامل مع  الاعداء ، حيث كان يدخل على إمبراطورنا وهو يجر ملوك وأمراء الشعوب الثائرة وهم مكبلين بالاغلال ليضعهم بين يديه , فتملكتني رهبة داخلية وأحسست بأن رياح روما الصفراء ستعصف بهذه البلاد ، بل إني أكاد أشم رائحة دماء أبناء شعب الفضائل البريئة وهي تسيل .
   كان أمير الفضائل يقف الى جانبي متأملا هذا الجيش وقائده الشهير ، الذي كان يتحرك أمام جيشه كألاسد الهائج المنتظر لحظة الانقضاض على فريسته ليمزقـها.
    فنظرت الى وجه أمير بلاد الفضائل ،  لاتبين حالته النفسية وهو يرى هذا الجيش , فرأيته رجلاً لاتهزه الرياح العاتية , رجلاً مستعدا للموت من غير تهور .. إنتصاراً منه للمباديء التي يحملها وللبلاد التي أنجبته ، فهو إبن هذه الارض وأميرها ..
   وإنقطع الصمت بيني وبين الامير عندما قال لي بأبتسامته المتواضعة  : أيها الحكيم إليوت ، هناك أمر يحيرني أريد أن أستشيرك فيه .. فقلت له : وما هو ؟
 فقال الامير : كم نحتاج من الوقت لدفن هذه الالاف المؤلفة من جيش الرومان ، إذا ما قتلناهم جميعا  ؟ فلم أتمالك نفسي من الضحك .. وقلت له : قد تحتاج الى سنين عديدة .
   لقد أعطاني هذا الامير درساً في القيادة الشجاعة ، التي ترفع من معنويات أتباعها في وقت المحنة .. لكني مع هذا شعرت بأن شجاعة هؤلاء القوم ستكلفهم الكثير من التضحيات  ..
    كان شعب الفضائل قد إستعد  لمعركة دامية طويلة الامد ، وبعد أيام قلائل بدأت المعركة بهجوم الالاف من الرومان ، فكانوا كالسيل الجارف وكأنهم جراد يترنح .. فإذا بسهام شعب الفضائل ومصائدهم وشجاعة فرسانهم رجالاً ونساء تتخطف هذه الرؤوس من أجسادها ، وكأن الارض تقاتل مع أبناءها .
    إن هول الهزيمة غير المتوقعة من قبل الرومان في اليوم الاول ترك أثرا سيئا على معنويات جنودهم ، فحاول هرقل رفع معنوياتهم في اليوم الثاني  بان تقدم أمام جيشه وطلب مبارزة العدو , فخرج إليه إبن أمير شعب الفضائل  وهو شاب رشيق صلب البنية متمرس بفنون القتال ، وبدأت المبارزة فأصيب هرقل إصابة غير مميتة ، وحاول الانسحاب لتضميد جرحه ولكن إبن امير الفضائل أجهز عليه , فعم الفرح والسرور شعب الفضائل , كما إنتشرت الفوضى  بين صفوف الرومان وهم يرون قائدهم الشهير يسقط أمامهم صريعا .
    حينها بكيت شجاعة هرقل التي أهدرها إمبراطورنا  في حروبه وأطماعه ، وفرحت لأن المعركة ستتوقف قريبا لتضع حدا لسفك دماء الرومان وشعب الفضائل ، وفعلا إضطر الجيش الروماني الى الانسحاب حاملاً جثمان قائده الى روما .
    بعد إنتهاء المعركة  بقيت في بلاد الفضائل عدة سنوات , فأحسست بالحنين الى الوطن , الى روما , الى كتبي ودراساتي ,  فإستأذنت أمير الفضائل بالرحيل  فحزن لهذا الفراق ، وأكرمني بالسير معي الى  أبعد منطقة يمكن أن يأمن فيها من غدر إمبراطورنا ، ثم تركني لأواصل رحلتي الى روما .
   بعد وصولي الى روما بأيام علم إمبراطورنا بأمري فبعث بطلبي ، فقد كنت من أصدقائه المقربين ، وعندما إلتقيته قال لي : لقد أخبرني (جون ) بوجودك في بلاد الفضائل إنك رجل محظوظ  , لقد نجوت من الموت مرتين : الاولى : من أنتقام شعب الفضائل منك لعلمهم بأنك روماني . والثانية : في المعركة التي حصلت  بين جيشنا وهؤلاء الرعاع .. لاأريد أن أطيل عليك , فأني لم أرسل في طلبك لتبادل الاحاديث  ولكن لأمر هام فيه خدمة بلدك وإمبراطورك ، وقبل أن أعلمك به أريد  أن اعرف رأيك بآثار هذه المعركة على تأريخنا ؟
   كان قلبي يعتصر ألما على دماء شعبي وشعب الفضائل  التي سالت  لأجل أطماع شخصية وأمجاد وهمية .. فقلت له : أيها الامبراطور العظيم , لقد منحت شعب الفضائل شرفاً لايستطيع أحد أن ينتزعه منهم .
 فقال الامبراطور : وأي شرف هذا ؟
فقلت له : إنه شرف تضحية شعب بحياته لأجل الحفاظ على كيانه وهويته ووجوده على أرضه دون مساعدة من أحد ، قد يستطيع أن يقاسمه  مجده بالانتصار على أعظم جيش في العـالم .
لم يكترث الامبراطوربكلامي هذا , وسألني عن قائد جيشه (هرقل) الذي قتل , فقال: هل رأيته قبل موته ؟
قلت له : نعم , رأيته يهرب بعد إصابته ولكن إبن أمير الفضائل أجهز عليه .
فقال الامبراطور : إن أمر هرقل يحيرني , فقد عرفته رجلا شجاعا لايخاف الموت فكيف يهرب منه ؟
فقلت له: إن هرقل لم يهرب من موت مشرف لأجل وطنه وشعبه ، ولكنه هرب من موت مخزي سيوصم به بعار العدوان على شعب بريء آمن .
فقال الامبراطور بغضب : ألم يقل  شيئا قبل أن يموت ؟
 قلت له  : كلا .
فقال الامبراطور : أريد منك  وأنت شاب حكيم طموح عرفت لغة شعب الفضائل وعاداتهم لسنوات أن تكتب تأريخ هذه الحملة العسكرية ، فتقول : إن القائد الروماني الشهير هرقل العملاق أصيب أثناء المعركة  ورفض الانسحاب لتضميد جراحه فمات  متأثراً بها وقبل موته ، صرخ قائلا (لأمت أنا , ولتحيا روما ) ، وأن تجعلني أنا المنتصر عليهم أمام التأريخ وقد هزمتهم , وتفضلاً مني عليهم ، سمحت لهم بالبقاء في تلك الارض ، ليتصور الناس مستقبلاً مدى عظمة إمبراطور ملك القوة والرحمة في آن واحد .
فأجبته قائلا : أيها الامبراطور , لقد كتبوا  تأريخهم بحبر لايمكن أن يمحيه أحد ، وبورق لايمكن أن يمزق .. لقد كتبوا تأريخهم بدمائهم وعلى أرضهم التي جعلوها مقبرة لأعدائهم .. فهل تريد سلبهم مجد الانتصار ، وتبدله بعار الهزيمة وإستجداء الرحمة منك ؟ .. لقد إشتروا حريتهم بدمائهم وقد إنتصروا عليك ، وليس أمام  أمثالك من الحكام إلا أن يعترفوا بهذه الحقائق .
فقال الامبراطور بغضب شديد : إليوت لقد تجاوزت حدك وجنيت على نفسك بتجرأك على إمبراطورك ورفضك لرغباته بوقاحة ، فأطلب مني ما تشاء وترغب  قبل موتك ؟
فقلت له : لي مطلب وحيد , وهو أن أموت وأدفن في بلاد الفضـائل .
فقال الامبراطور : ولماذا ؟
فقلت : لقد شاهدت لأول مرة في حياتي أناس لايظهرون إلا ما يبطنون من حب أو كره ، وأحسست بينهم بالنقاء الروحي والمحبة الصادقة المتجردة من المصالح الشخصية الانانية ، هذه السعادة الروحية لم أشعر بها من قبل , ولم تكن فلسفات الرومان والاغريق التي درسناها قادرة على إيصالنا الى ما وصل هؤلاء القوم إليه .. وهم ليسوا رعاعاً متوحشين كما تتصور , بل أناس أذكياء وجدوا سعادتهم في محبتهم  لبعضهم ورضاءهم بقدرهم ، ووجدنا نحن سعادة زائفة ببناء كل ما هو حولنا وتخريب نفوسنا وبعدم قناعتنا بما نملك ، فعشنا كالوحوش التي  لايشبعها شيء , فتولد داخل نفوسنا الشعور بالنقص والحاجة المستمرة , والخوف من فقدان ما حزناه .. لذا أحببت أن تضم تلك الارض الطيبة رفاتي لأنعم بالراحة الروحية والى الابد .
فقال ألامبراطور : بإستخفاف لك هذا .. أنظر ياإليوت مع كونك شابا إلا أن لك حكمة الشيوخ ، وقد أحببت رفقتك لي لعلمي بصدقك وإخلاصك ، رغم صراحتك الوقحة ، ولكن تركك حياً سيفسد علي خططي ، لهذا فان في قتلك موت لحقيقة لاأريد أن يطلع أحد عليها مستقبلا ، وهنا صرخ الامبراطور قائلا : أيها الحرس خذوه الى السجن .
    في السجن بدأت أكتب مذكراتي عن شعب الفضائل , وأنا أعلم بأن إمبراطورنا سوف لن يتراجع عن غطرسته ويتركني حيا , وزارني في السجن خفية أحد أصدقاء طفولتي وهو( زيوس) كان ضابطا في حرس القصر ، وأوصيته في حالة موتي أن يدخل الى سجني ويأخذ هذه المذكرات وينشرها بين الناس في روما وفي بلاد الفضائل , كي أحمي تاريخ هذا الشعب من التزوير والتحريف الذي قد يقوم به إمبراطورنا ، فوعدني زيوس خيراً وإنصرف .. أما الان فأعذروني عن مواصلة كتابة مذكراتي فإني أسمع صوت اقدام تقترب من سجني , لعل نهايتي قد إقتربت , لذا لايسعني إلا  أن أقول لكم  وداعا .)
    فسار الحكيم إليوت بخطواته الواثقة إلى موقع إعدامه إلى الارض التي أحبها وأحبته إلى الارض التي أحس بأنه يعرفها منذ زمن بعيد .
    هنا إلتفت إلي الرجل العجوز , وقال لي : هذه الحديقة هي موقع إعدام إليوت ، وهذا هو تمثاله الذي أقامه شعبنا له إعترافا منه بوفاء الانسان لأخيه الانسان  وحفاظا على روح الحقيقة التأريخية التي ضحى لاجلها إليوت ، إنه بحق شهيد الكلمة .))
     فشكرت الرجل العجوز وقلت له : لقد أتعبتك ياعم برواية هذه القصة الشيقة , ولقد حان أوان مغادرتي لهذه البلاد الطيبة لأرجع الى بلدي وأنقل لهم ماسمعته منك ، ولا أدري هل سيطول بي العمر لأزور هذه البلاد العجيبة ثانية أم لا .

الخطابة .. فن أدبي ومنبر إعلامي.



بقلم : يسار محمد الدرزي
      إن من روائع الفكر الانساني ، هي  قدرته على إعلام الاخرين بمكنونات العقل وخفايا النفس ، عن طريق مخاطبتهم بإسلوب نثري يتضمن روائع الالفاظ وفصيح المعاني وأبينها مع أرقى الامثال الحاضرة أو التاريخية ،  وهذا الفن الادبي  يعـرف بإســــــــم ( الخطابة ) ، وبه تجلت عبقرية اللسان العربي للقاصي والداني .
   وفي اللغة : خطب خطبة وخطبا وخطابة : وعظ ، قرا الخطبة على الحاضرين ( رجل خطيب ) : أي حسن الخطبة .. والخطاب : كثير الخطاب .( انظر المنجد في اللغة والاعلام .ط17-ص186 .).
 وقال الجرجاني في كتابه ( التعريفات )ص95  :( الخطابة : هو قياس مركب من مقدمات مقبولة ، أو مظنونة، من شخص معتقد فيه ، والغرض منها ترغيب الناس فيما ينفعهم من أمور معاشهم ومعادهم ، كما يفعل الخطباء الوعاظ .).
     فالخطبة ، هي قالب لعصارة الفكر الموجه الى الاخرين ، المصوغ بدرر الالفاظ المنظومة كأنها لؤلؤ مكنون ، يشع بالمعاني الساحرة الاسرة للعقول والقلوب ، فتستميل الانسان وتشده الى مخاطبه ، مشعلة فيه نار البصيرة حتى لايبقى عنده شك فيما يتلقى من كلمات ، وهذه لعمري لهي الخطبة الناجحة التي تحمل الاخرين على التسليم بصدق محتواها وبقدرة ملقيها وكفاءته .
   وتستخدم الخطبة  في التزويج عند العرب ، فقد خطب أبو طالب بن عبد المطلب لرسول الله صلى الله عليه وسلم في تزوجه خديجة بنت خويلد رحمة الله عليها ، فقال :( الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم ، وزرع إسماعيل ، وجعل لنا بلدا حراما ، وبيتا محجوجا ، وجعلنا الحكام على الناس ، ثم إن محمد بن عبد الله ، إبن أخي ، من لايوازن به فتى من قريش إلا رجح عليه برا وفضلا ،وكرما وعقلا ، ومجدا ونبلا ، وإن كان في المال قل ، فإنما المال ظل زائل ، وعارية مسترجعة ، وله في خديجة بنت خويلد رغبة ، ولها فيه مثل ذلك ، وما أحببتم من الصداق فعليّ.)... قال أبو العباس المبرد عن هذه الخطبة في كتابه :( الكامل في اللغة والادب )ج2-ص721 :( وهذه الخطبة من أقصد خطب الجاهلية .).
   ولكل عصر خطباء مشهورون ، تتغنى الجماهير بخطبهم ، ويخلد التاريخ ذكرهم ، وتعكس خطبهم أهم الاحداث التي تاثرت بها الجماهير بالاضافة الى آراءهم الحاضرة وآمالهم المستقبلية ، لذا كثيرا ماتكون بعض الخطب مصادرا للمعلومات التاريخية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ، تدلنا على النسق الفكري السائد في التعامل مع الاحداث والمواقف في عصر معين .. فالخطابة من أقدم الفنون الادبية عند الشعوب البدو أو المتحضرين منهم ، حيث كان كبراء القوم يخاطبون أبناء جلدتهم ، فيوجهونهم لما فيه فلاحهم وعلو شأنهم .
   وقد كان عرب الجاهلية قبائل بدوية ، لايحكمها قانون ولاتجمعها دولة ، فتراهم يشنون الغارات على بعضهم البعض ، لذا كان الدفاع عن النفس والمال والعرض ، والمباهاة بقوة القبيلة وكرم أبنائها وشجاعتهم هي مواضع الفخر في  اشعارهم وخطبهم .. فقد كان لكل قبيلة شاعر وخطيب ، حتى إشتهر شرفاء القوم بالخطابة بعد أن إبتذل الشعر بتعاطي العامة والسفهاء له وتلوثهم بالتكسب به ، ولكن لم تصل أخبار خطباء العرب الاوائل كما وصلت أخبار شعرائهم ، وذلك لأحتفاء العرب بالشعر قديما دون الخطابة ولصعوبة حفظ النثر ...
   وأعتقد أن الكثير من آداب الجاهلية  ، لم يحتفي  المسلمون بها  فيؤرخوها  خاصة الخطب القديمة ، لما كانت تحويه من دعوات وثنية وعصبيات جاهلية تثير القبائل ضد بعضها البعض .
  وكان من عادة الخطيب أن يخطب قائما أو على مرتفع من الارض أو على راحلته لابعاد مدى صوته ولاظهار ملامح وجهه ، وكان يعتمد على عصا أو قوس بيده وربما يشير بيده عند الخطابة ، ومن صفات الخطيب جهورية الصوت وسلامة النطق وعلو الهمة وقدرة التأثير في الاخرين .
  وإشتهر الكثير من الخطباء في العصر الجاهلي منهم :( كعب بن لؤي ، وذو الاصبع العدواني ، وقيس بن خارجة ، وخويلد بن عمرو الغطفاني ، وقس بن ساعدة الايادي ، وعمرو بن كلثوم التغلبي ، واكثم بن صيفي التميمي ، وغيرهم .)
  ونسب الى بعض الخطباء السبق في أمور جرى عليها الخطباء الذين تلوهم فيما بعد ، ومنهم قس بن ساعدة الايادي وكان حكيم العرب وخطيبها ، يقال أنه أول من خطب على شرف ، وإتكأ  على سيف ، وقال في خطبه : ( أما بعد ) .. وهو صاحب الخطبة المشهورة التي مطلعها :( ايها الناس إسمعوا وعوا ، إنه من عاش مات ، ومن مات فات ، وكل ماهـو آت آت .....).
    ومن أغراض الخطابة في العصر الجاهلي ، الفخر بالاحساب والانساب وبمآثر  الافعال وبالذود عن الشرف وبالشجاعة عند لقاء العدو ، وبالقدح بالخصم ، وبإصلاح ذات البين ، وبالترغيب والترهيب وغيرها من الاحوال التي تناسب العقلية السائدة في البيئة الاجتماعية آنذاك .
   ولما جاء الاسلام ، إحتاجت هذه الرسالة السماوية الى السنة الخطباء الفصيحة لتنشرها وتذود عن حياضها بحجج عقلية ووجدانية تقرع أسماع العامة والخاصة ، ترغبهم في الثواب وترهبهم من العقاب ، حتى صارت ( خطبة الجمعة ) ركنا من اركان الدين .
  وقد إستعان خطباء العصر الاسلامي بالكتاب والسنة في تاييد صحة آراءهم فكانا مددا لاينقطع من الالهام ، حتى إرتقت الخطابة في هذا العصر الى أعلى المقامات وأسمى الدرجات .. يقول السيد أحمد الهاشمي في كتابه ( جواهر الادب )ج2-ص99 :( وليس في عصور أدب اللغة عصر أحفل بالخطباء من هذا العصر ، إذ كانت الخطابة فيه سلسلة القيادة على خلفائه وزعمائه ، لفطرتهم العربية ، ومحلها من الفصاحة والبيان ، وإنطباعهم على اساليب القرآن وإتساع مداركهم .).
  ومن أغراض الخطابة في  العصر الاسلامي ، الامر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ومدح الفضائل وذم الرذائل وتفسير تعاليم الدين الاسلامي الحنيف ، وتحميس الجند في سوح الوغى .
   وقد كان من أهم خطباء هذا العصر ، الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدون من بعده وغيرهم ، كما تميزت خطب هذا العصر بعذوبة الفاظها وكثرة إقتباسها من القران الكريم وإبتداؤها بحمد الله والصلاة على رسول الله .
   والنبي صلى الله عليه وسلم كان أفصح العرب لسانا بالفطرة ، ففصاحته أشبه بالالهام والفيض الالهي ، والفاظه سلسة ومعانيه فصيحة وعباراته متكاملة غير مضطربة .. ولعل رفقة سيدنا علي للرسول صلى الله عليه وسلم ، قد كان لها أثرا في إرتقاءه في سلم الخطابة الى درجة سامية شهد له بها الجميع ، حتى قال عنه الاستاذ أحمد حسن الزيات في كتابه ( تاريخ الادب العربي )ص135 :( كان حكيما تتفجر الحكمة من بيانه ، وخطيبا تتدفق البلاغة على لسانه ، وواعظا ملء السمع والقلب .. وهو بالاجماع أخطب المسلمين وإمام المنشئين ....).
  وقد جمع خطبه الشريف الرضي في كتـاب اسمـاه ( نهج البلاغة )، حوى خطبا ورسائل وحكم ومواعظ .
  وحفل العصر الاموي بالخطب السياسية ، فصار للخطابة شأن ومكانة معتبرة ،  ولما جاء العصر العباسي أعتمد على الخطابة في توطيد الملك وإستقبال الوفود ورفع همة الجنود في الحرب ، وبعد توطيد حكم العباسيين أكثروا من استخدام الموالي في سياسة الدولة وقيادة الجيش ، فقلت العناية بالخطابة وحلت الرسائل والمنشورات محلها ، وقصرت على خطب الجمع والعيدين والزواج .
   ومع ذلك ظهر في العصر العباسي خطباء مشهورون منهم الخطيب البغدادي والخطيب التبريزي ، وفي أواخر العصر العباسي ضعفت الدولة وإستعجم الكثير من المسلمين فقلت عنايتهم باللغة العربية الفصحى حتى وصل الوعاظ الى حال قصرت ملكاتهم الادبية عن صياغة خطب في موضوعات الحياة المختلفة ، فعملوا على الاقتباس من خطب اسلافهم وترديدها من فوق المنابر وإستمروا على هذه الحال قرونا ، الى أن قامت الثورة العرابية في مصر ، فظهرت الخطبة السياسية على ألسنة زعمائها ودعاتها ومن أشهرهم السيد عبد الله النديم والشيخ محمد عبده وأديب اسحق واللقاني ، فكانوا الشرارة التي أيقظت هذه الملكة في عقل الامة وروحها ، فقام الادباء بتشكيل مجامع اسبوعية للخطابة لتعزيز هذا الفن الادبي في مجال الاخلاق والدين والاجتماع والسياسة .
   وقد افرزت هذه المرحلة العصيبة خطباء وطنيين ، تحولت كلمات خطبهم الى أناشيد وطنية تغنت بها الاجيال ، ومنها خطبة ألقاها مصطفى كامل بالاسكندرية سنة1907 إفتتحها بقوله :( بلادي بلادي ، لكي حبي وفؤادي ، لك حياتي ووجودي ، لك دمي ونفسي ، لكي عقلي ولساني ، لك لبي وجناني ، فأنت أنت الحياة ، ولاحياة إلا بك يامصر !......).
  كما تحولت  بعض نصوص الخطباء الوطنيين الى حكم وشعارات تردد ، ومنها خطبة لسعد زغلول باشا خاطب بها الامة المصرية سنة1921م ، حيث ختمها بقوله :( الى العمل جميعا ، لنرفع منار الوطن ، ونعلي كلمته ، ولتحيى مصر .).
 ومن آرائه في التشريع :( كل شريعة تؤسس على فساد الاخلاق فهي شريعة باطلة .) ومن كلماته المأثورة في الحرية وحدودها :( نحن نحب الحرية ، ولكننا نحب أكثر منها أن تستعمل في موضعها .).
  والحقيقة أن الحرية السياسية والمنافسة الحزبية والمناقشات البرلمانية من أبلغ العوامل في رقي الخطابة .
   فحرية التعبير ، تطلق اللسان من عقاله ليصول على المكاره ، ويجول في ربوع الحياة مفصحا عن مساوئها ومباهجها .
     إن السحر الذي يكمن في الكلمة ليس في مقدرتها على التعبير عن الحقائق الشاخصة للعيان فحسب  بل في إمكانيتها على إكتشاف وتحديد  الحقائق المجهولة لدى العامة ، وهنا تلعب دور الاداة المحررة للافكار من حدود الذات لتنطلق الى الاخرين ، لذا أصبحت الخطابة فن له قواعده واصوله ، وهي تقسم حسب مضمونها الى خطب وعظية توجيهية دينية أو أخلاقية المحتوى ، والى خطب سياسية  تتناول السياسة الداخلية والخارجية بالتحليل والنقد والتفسير والتاييدأو المعارضة ، وخطب قضائية تتضمن الادعاء العام أو الدفاع عن المتهم في قاعات المحاكم .. وخطب عسكرية تستخدم  لترغيب الجند في القتال بتحميسهم لشحذ هممهم ورفع معنوياتهم .. وخطب مناسبات يتعدد مضمونها حسب نوع المناسبة التي يتم الاحتفال بها .
  وقد أجاد الاستاذ سلامة موسى في إنتقاء وجمع عيون الخطب العالمية العربية والافرنجية في كتاب ( أشهر الخطب .. ومشاهير الخطباء ) مع إعطاء نبذة مختصرة عن حياة الخطيب ، وبهذا قدم صورة عن التاريخ الفكري لعظماء الخطباء من خلال خطبهم .
  وأرى أن الخطبة أشبه بمسيرة نحو حقيقة يسعى الخطيب لايصال الناس اليها ، وخلال هذه المسيرة يتم تذليل المصاعب وإقتراح الحلول والوقوف عند محطات للتأمل ، لذا اصبح واجبا على الخطيب أن يبحث عن المعلومات الضرورية التي تتصل بموضوع خطبته ومن ثم ينسقها ، كي يعطي صورة واضحة ومتكاملة للحقيقة ، فتراكم المعلومات دون ترتيبها زمانا ومكانا ، يؤدي الى إرتباك الافكار ومن ثم تشوش الخطبة ، فينقطع الاتصال بين الخطيب وجمهوره .
   إذن الخطبة ليست عملية تجميع للكلمات وترتيبها ، بل هي نقل لصورة ذهنية متكاملة في عقل الخطيب الى الجمهور ، فيغدو كالذي يصف منظرا طبيعيا قد شاهده في الماضي ليعلم الناس بملامحه في الحاضر ، وصدق الشاعر الروماني هوراس عندما قال قبل أكثر من الفي سنة :( لاتبحث عن الكلمات ، إبحث فقط عن الحقيقة والفكرة ، عندئذ تتدفق الكلمات من دون أن تسعى اليها .).
    وعلى الرغم من أن الفيلسوف والخطيب الروماني الشهير شيشرون قد أبدى ملاحظات تفيد الخطيب في إعداد خطبته ، إلا أن قواعد واسس الخطابة تبلورت في أنضج صورها وابدع اشكالها في شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم ، يقول الدكتور إجلال خليفة في كتابه ( الصحافة )ص45 :( ولقد إتصف الرسول محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم في مخاطبته للمسلمين بالصفات الواجبة في الخطيب أو في الخطبة مما جعل علماء الكلام في العالم يوصون تلاميذهم بإتباع الاسس التي وضعها النبي العربي الكريم ، مثل الكاتب هيجوفن وقبله سانت فكتور الذي عاش في القرن الثامن عشر ، ووضع كتابا ناقش فيه أسس مخاطبة الناس ووضع له عنوان :( ديداس كاليسون ) ، لانها قبله صلى الله عليه وسلم لم يكن لها قواعد ولا اسس تحدد معالم الخطبة وعلوم مواجهة الجماهير .).
   ولقد عمل الغرب على تدريب ابناءه على الخطابة منذ نعومة أظفارهم وحتى إرتقائهم الى اعلى مراحل الرجولة ففتحت معاهد لهذا الغرض منها معهد دايل كارينجي مؤلف كتاب ( فن الخطابة ) ، وذلك لاعداد قادة فكر في شتى مجالات الحياة السياسية و الاجتماعية والاقتصادية ، ذوو ثقة عالية وشجاعة أدبية تمكنهم من التأثير في الاخرين .
  وحبذا لو يتم الاهتمام بتشكيل لجان للخطابة في كل المدارس المتوسطة والاعدادية مع تنظيم مسابقات فصلية ذات جوائز معتبرة لتحفيز الجيل الجديد على تنمية هذه الملكة اللغوية الاصيلة .. فلقد عرفت مدينة الموصل الحدباء بكثرة لجان الخطابة في مدارسها منذ ثلاثينات القرن العشرين  ، فقد ذكر لي الخطاط الكبير يوسف ذنون أن في عام1939م كان هناك لجنة خطابة في المدرسة الاعدادية ، وكان ضمن أعضائها المرحوم ذنون الشهاب ، فحري بنا أن نزيد من إهتمامنا بلغتنا العربية عن طريق ترغيب أبناءنا في إستخدامها تعبيرا وإلقاء .
   ولتفعيل هذا الفن الادبي نحن بحاجة الى كتب حديثة تنمي ملكة التخيل الصحيح وهي جوهر البلاغة ككتاب ( حديث القمر ) للاستاذ مصطفى صادق الرافعي ، حيث أنه الف هذا الكتاب بإسلوب يجعل طالب الانشاء من خلال المداومة على قراءته وتأمل معانيه كاتبا معبرا .. ويعتمد اسلوب الرافعي البليغ على قوة التخيل ودقة الوصف ، فهو يعرف البلاغة في كتابه ( حديث القمر ) قائلا  ص7 :( البلاغة التي حار العلماء في تعريفها على كثرة ماخلطوا لاتعدو كلمتين : قوة التصور ، والقوة على ضبط النسبة بين الخيال والحقيقة ، وهما صفتان من قوى الخلق تقابلان الابداع والنظام في الطبيعة وبهما صار افراد الشعراء والكتاب يخلقون الامم التاريخية خلقا ، ورب كلمة من أحدهم تلد تاريخ جيل .).
   ومما سبق نستطيع أن  نقول بأن الخطيب الجيد هو عقلية ذات فكر موسوعي متمكن من أدوات اللغة ، يحسن إختيار الموضوعات التي تهم مستمعيه ، فيراعي قدرتهم على فهم مايقوله ، بإنتقاء إسلوب سلس وافكار واضحة المعالم ، وأن يتمرن على إلقاء الخطبة قبل مواجهة الجمهور.
  وتتجلى براعة الخطيب في قدرته على جذب إنتباه جمهوره اليه عند إلقاءه الخطبة قراءة أو إرتجالا ، بضربه على أوتار العاطفة والعقل معا ، من خلال موضوع هام ذا بداية قوية مؤثرة ونهاية معبرة مدهشة ، وهذا يتطلب منه امتلاك معلومات ثرية وقدرة على أيصالها الى الجمهور ، بخطاب موجز قليل الكلمات كثير المعاني مدعم بحجج عقلية مقنعة واضحة تستميل السامعين للعمل بمضمونه .
    وسيبقى الخطباء  لسان حال الامم عبر العصور ، ببيانهم الذي يجلو الغشاوة عن الابصار العليلة فينبه القلوب الغافلة ويشحذ الهمم الخاملة ويوقض العقول الكليلة لتستفيق من سباتها .. وهكذا خلدت أسمــاءهم في ذاكرة الشعوب ، فكان شيشرون في الرومان وديموستينيس في اليونان وعلي في العرب .

السعادة .. غاية الشعور الانساني



 بقلم : يسار محمد قاسم
    إن تاريخ الفكر الانساني هو تاريخ البحث عن السعادة في مجتمعاته المتباينة الاعراق والديانات ، حيث أن لكل منها مفهومها الخاص عن السعادة  ، إلا أن إجتهادات المفكرين والفلاسفة كانت  منصبة على  السبل الموصلة الى السعادة أكثر من بحث ماهيتها ، وذلك لان الصيغ والوسائل متباينة ومتجددة حسب الاماكن والازمنة والاعراف الطاغية على المجتمع  ، بينما حقيقة السعادة غاية مسلم بأهميتها لدى الجميع .
   ونحن في هذا المقال سنتحدث عن السعادة من خلال أفكار فلاسفة الامم ومفكريها لنخرج من تحليلنا لارائهم بنتيجة نعتقد بصحتها .
   منذ القدم أشارت الملاحم البطولية الى فكرة الاحتفاظ بالسعادة عن طريق الخلود ، كما في ملحمة كلكامش حاكم الوركاء البطل المتطلع للشهرة والصيت والذي أثار موت صديقه أنكيدو في نفسه فكرة نهاية الانسان ولغرض إدامة تمتعه بالحكم والسعادة ذهب يبحث عن الخلود ولكنه فشل ، وادرك ان الخلود الحقيقي هو بالاعمال الصالحة الخيرة التي تبقيه في ذاكرة الاجيال .
أما في الفلسفة فقد إختلف الفلاسفة في تحديد ماهية السعادة  الى آراء منها :
أولا : السعادة أنواع : قال ارسطا طاليس  : السعادة ثلاثة : إما في النفس ، فهي الحكمة والعفة والشجاعة ، وإما في البدن فهي الصحة والجمال والقوة ، وإما خارج النفس والبدن ، فهي المال والجاه والنسب .
ثانيا : السعادة ليست غاية : من الفلاسفة من رأى أن الصراع هو قانون النمو  وأن الالم هو علامة الحياة ، وهو عامل مهم لتحفيز الانسان الى العمل والبناء ، لذا فالسعادة ليست غاية لحياة البشر بل غاية الحياة هي تحقيق الاعمال وإنجازها . قال عما نويل كانت :( إن تاريخ العالم ليس مسرحا للسعادة ، وفترات السعادة صفحات بيضاء فيه ، لانها فترات إنسجام خالية من الصراع ).
   وبرأينا إن هذه الفكرة غير مقبولة لانها تجعل الانسان مجرد آلة غير واعية تائهة  ، يقوم بأعماله بلا هدف ، بل بدافع خوف الحاجة والالم أو هوس الحيازة على المادة  فيدخل حينها في صراعات لاتنتهي إلا بأنتهاء إمكاناته أو موته.
ثالثا :السعادة وهم : من الفلاسفة من كان متشائما بنظرته الى الحياة مثل شوبنهاور حيث بين أن الحياة شر ، وما السعادة إلا وهم لايمكن الوصول اليه لاسباب منها :
ل1. أن الرغبات الانسانية لايمكن إشباعها جميعها لانه في حالة إشباع رغبة تتولد رغبة أخرى تريد إشباعها وهكذا الى ما لانهاية ..
ل2. الحياة شر لان الالم هو دافعها الاساس وحقيقتها وليست اللذة سوى مجرد إمتناع سلبي للالم ..
ل3. إذا إستطعنا فرضا القضاء علىكل الشر سوف لانصل الى السعادة لاننا  سنصاب بالسأم  وهو لايحتمل كالألم ..
ل4. إن زيادة معرفة وبعد نظر الانسان تزيد من شعوره بالالم  ، لان آلامنا كامنة في تأمل الماضي  أو التفكير بما سيقع في المستقبل .
   هذا الرأي هناك من يعتنقه من الناس المصابين باليأس والقنوط من رحمة الله سبحانه وتعالى لهذا ذكرناه ، ولكن هذه النظرية المتشائمة تصيب من يعتنقها بالشلل النفسي والجسمي والعلمي لأنها تنفي وجود السعادة اصلا ، وهي بهذا الفعل تقضي على أي حافز إنساني للقيام بالاعمال الناجـحة المثمرة .
   أما الديانات على إختلافها فقد حصرت غاية  الانسان في هذه الحياة بالسعي لنيل السعادة الابدية في العالم الاخر بعد الموت ، وهذه الجائزة لاينالها إلا الملتزم بالتعاليم الدينية . وهناك أديان وعدت المؤمنين بها بسعادة الدارين الدنيا والاخرة مثل الاسلام.
    وفي الديانة الهندوسية هناك نظرية للسعادة ( النرفانا ) مغزاها ( أن الانسان يبلغ السعادة بمقدار كبت الرغبات والشهوات وإيقافها إيقافا تاما )
هذه النظرية ترى السعادة بترك مغريات الحياة ومباهجها ، وتجعل الانسان مستعدا للخنوع والكسل ، لذا فهي نظرية لاتصلح لاعمار الارض .
من الناحية النفسية  والاجتماعية فأن الانسان بعد أن ينعم بسد حاجاته الاوليةالاساسية من مأكل وملبس ومشرب وأمان ،  يسعى الى الاستزادة منها فيسعى الى الثراء والشهرة واشباع رغباته الجنسية والى السلطة  ، هذه الاهداف يرى كل إنسان فيها سعادته بنسب مختلفة تتراوح بين القناعة بحدود معينة منها وبين تعدي هذه الحدود المعقولة فتتحول الى نقمة على صاحبها  كما يلي :
أولا : الثراء : إن حب جمع المال بلا حدود ، يحول الانسان الى آلة غير واعية لصحتها ولحال من هم حولها ، إذا لم تهذب قناعة الانسان تهالكه على المادة ، وصدق أحد الحكماء عندما قال :
( من قنع كان غنيا وإن كان فقيرا ، ومن لم يقنع كان فقيرا وإن كان غنيا ) .. فالغنى الحقيقي كما يقال هو غنى النفس .
ثانيا : الشهرة : قد تتشبع النفس الانسانية بحب الظهور ، فتغدو بلاهدف جديد بل في فراغ نفسي وروحي قاتل لايوجد ما يسده خاصة إذا كانت الشهرة مناقضة لمستلزمات الحياة الطبيعية للانسان ، فأنها قد تحطمه نفسيا ، كما حصل ذلك لممثلة الاغراء الشهيرة ( مارلين مونرو) التي إنتحرت تاركة رسالة أوصت بعدم فتحها إلا بعد موتها  وكانت تتضمن نصيحة لفتاة شابة في مقتبل حياتها الفنية جاء فيها :
( إحذري المجد ، إحذري كل من يخدعك بالاضواء ، إني اتعس إمرأة على هذه الارض ، لم أستطع أن أكون أما . إني إمرأة أفضل البيت ، الحياة العائلية الشريفة  على كل شيء ، إن سعادة المرأة الحقيقية في الحياة العائلية الشريفة الطاهرة ، بل إن هذه الحياة العائلية لهي رمز سعادة المرأة ، بل الانسانية ..... لقد ظلمني كل الناس ، إن العمل في السينما يجعل من المرأة سلعة رخيصة تافهة مهما نالت من المجد والشهرة الزائفة ).
ثالثا : الاباحية الجنسية  : الاستهتار بالقيم الاخلاقية  أدت بالشباب الى مهاوي إجتماعية كبيرة والى أمراض جنسية مخزية كالسيلان والزهري والسفلس وغيرها وآخرها مرض الايدز  القاتل الذي وقف العلماء أمامه حائرين .. فأي سعادة بدايتها لذة ونهايتها فضيحة وموت مخزي بصورة مقززة !.
رابعا : السلطة المطلقة :
* هناك حكام إعتقدوا أن سعادتهم تكمن في التخلص من معارضيهم دون التفريق بين بريء ومذنب . ومنهم الحاكم الروماني الشهير سلا  Silla حيث أخضع بتجبره وقسوته المفرطة الرومان وهم صاغرون ، ولقب نفسه ( السعيد ) وأصبح مثال على التسلط المطلق على الارواح والاموال ، ثم أصيب بكآبة لكثرة الجرائم والاثام التي إقترفها فأعتزل الحكم ومن ثم أصيب بداء خبيث فمات سنة78 ق.م في أتعس حال ، وقبل موته أمر أن يكتب على قبره :(هنا سلا الذي فاق كل أحد في البر باصدقائه والنقمة من أعدائه ).
   لذا يخطيء من يظن بأن الانتقام من المعارضين الناقدين لسياسته للوصول الى التحكم المطلق يمكن أن يمنحه السعادة ، فليس إضطهاد الغير إلا محاولة لسد نقص نفسي سرعان مايتجدد فيحتاج صاحبه الى مزيد من العنف تجاه الاخرين .
* وهناك حكام أرادوا الحصول على السعادة من خلال تحويل الحياة الى مسرح كبير يكونون هم أهم أبطاله ، ومنهم نيرون Neron  الذي ساد الامبراطورية الرومانية خلال حكمه الهدوء والازدهار ودفعه ولعه الشديد بالموسيقى والشعر الى إرتياد المحلات العامة للشعب ليغني ويعزف لهم ، فحاول مجلس الشيوخ عزله بمؤامرة إلا أنها فشلت ، فتحول نيرون الى وحش كاسر منتهجا سياسة قمعية ، فأعدم الكثير من النبلاء .. ويقال أنه أحرق روما سنة64م ليعيد بناءها وفق احلامه وخيالاته ، وإنتهى به المطاف الى الانتحار .
   من خلال الاراء الفلسفية والنفسية والاجتماعية السابقة  حول السعادة وسبل الوصول اليها ، يبرز أمامنا سؤال مهم ألا وهو : ماهي حقيقة السعادة ؟
للأجابة على هذا السؤال يجب أن نفرق بين ثلاث معاني ذكرها العالم مكدولج ، وهي:
أولا : اللذة : وهي كل ما يشبع الحاجات الجسمية للانسان ، كالاكل والشرب واللبس ، هذه اللذة تكون وقتية.
ثانيا : السرور : وهو متصل بالعواطف ، كالسرور الناتج من مقابلة صديق حميم بعد غياب ، أو شفاء مريض محبوب لنا  وغيرها ، حيث يكون السرور أطول أمدا من اللذة.
ثالثا : السعادة : وهي أطول أمدا وأعمق تاثيرا من اللذة والسرور ، وهي تنبع من قيام الانسان بأداء واجب يؤمن بأن تحقيقه يؤدي الى تحقيق ذاته .
   هذا الرأي يتطلب من الانسان أن يكون ذكيا كي يستطيع أن يختار فكرة سامية يعتبر تحقيقها واجبا ، ثم أن يكون صادقا كي يؤمن بها ، وأن يكون ذو إرادة كي يحول  قناعته الفكرية والنفسية بالواجب الى عمل نافع .
    ولكن ماهو المنهج الصحيح الذي على الانسان أن يؤمن بصحته كواجب يستطيع تحقيق سعادته من خلاله ؟
 على إختلاف الاراء  العلمية والفلسفية والدينية للبشر إلا أن سمات المنهج الذي يسعى الانسان للوصول إليه برأينا هو :
ل1. منهج يبين لنا أصل الانسان وسبب خلقه وعلاقته بالكون ، وهذا كان مبحث علماء الطبيعة  .
ل2. منهج يحدد مقاييس وقواعد الخير والشر والعدل والجمال والسعادة ، وهذا ما يبحث عنه الفلاسفة .
ل3. منهج لاتتعارض أصوله مع العلم والاكتشافات الحديثة ، وهذا ما يسعى له العلماء والمخترعون .
ل4. منهج يشمل كل جوانب الحياة الروحية والمادية فيقود المؤمنين به الى الشعور بالسعادة والاطمئنان النفسي والروحي ، وهو مانسعى جميعنا لتحقيقه .
    إن منهجا متكاملا يشمل كل هذه السمات لايمكن أن يحققه البشر بأمكاناتهم الذاتية من غير أخطاء أو قصور ، وبما أنه منهج نسبي الصحة غير معصوم من الخطأ ، هذا يعني أن الايمان به شيء مستحيل ..
    إذا لابد من أن يكون هذا المنهج إلهيا كي نضمن كونه مطلق الصحة وكي يدفع الانسان الى الايمان به ، لذا بعث الله سبحانه وتعالى بالاسلام دين يفسر سر وجود الانسان واصله ومحددا الخير والشر والاحكام والعبادات ، ولاتزال الاكتشافات العلمية تؤيد صدق ماجاء به قرآننا الكريم، وكأن الكون يشهد على صحته ويدعو بني البشر للايمان به .
     ومن هنا نتبين بأن المسلم الحقيقي خير مثال على الانسان السعيد ، حيث يتصدق على الفقراء عن طيب نفس فيرى سعادته في قضاء حوائجهم . ويرضى بقضاء الله وقدره فيصبر على البلاء الذي يحل به بسعادة مؤمنا بان الله سيثيبه على صبره ، ويتسامح مع المسيء إليه بسعادة طمعا في أن يتجاوز الله عن سيئاته ، بل يجد سعادته في كل عمل أخلاقي سام يقوم به ،  وبما ان اعمال الخير والاصلاح لاتنتهي ولا تقف عند حد  لذا يكون المسلم العالم العابد سعيدا طوال حياته ما دام هناك فضائل يسعى لتحقيقها ورذائل يبتعد عنها فيحاربها للقضاء عليها ، فهو إنسان سعيد لانه يكون في السراء شاكرا محسنا  وفي الضراء صابرا محتسبا . وبهذا تتكامل سمات السعادة الروحية والمادية في الشخصية الاسلامية .